علياء طلعت تكتب: سنوات الجرى في المكان وحكاية جيل سجين لأمل مُجهض - بوابة الشروق
الخميس 6 يونيو 2024 4:08 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

علياء طلعت تكتب: سنوات الجرى في المكان وحكاية جيل سجين لأمل مُجهض


نشر في: الجمعة 10 مايو 2024 - 7:32 م | آخر تحديث: الجمعة 10 مايو 2024 - 7:32 م

من عتبة النص «سنوات الجرى فى المكان» تخبرنا الروائية «نورا ناجى» إننا أمام رواية عن الإحباط، يغيب عنها الأمل، تزرع فى خيال القارئ صورة تثبت صحتها على طول الصفحات، وتجبره على طرح عدة أسئلة عصيبة «من منا ما زال يجرى فى المكان؟ ومن استطاع الفكاك من هذا الفخ؟ وما المقابل؟».
صدرت «سنوات الجرى فى المكان» عن دار الشروق فى نهاية عام 2022، لتصبح خامس روايات نورا ناجى، بالإضافة إلى كتاب غير روائى واحد، ومجموعة قصصية، وتثبت على براعتها الأشكال الأدبية الأخرى أن الرواية ملعبها الأساسى الذى تجرب فيه مع كل عمل لها تقنيات أدبية وسردية جديدة وتختبر أرضًا مليئة بفخاخ المشاعر والمخاوف المكبوتة.
عندما ماتت كل الحواس
«نظرت إلى الأسفل، رأيت الآلاف على الأرصفة، أمام البنايات وداخل الكعكة الحجرية وفى الحدائق وعلى النواصى، يقفون ويجلسون ويتمشون ويتحدثون ويغنون وينظرون إلى السماء ويتأملون على الأرض، كانوا جميعًا على الرغم من ثباتهم يجرون فى المكان، أعتقد إنهم ما زالوا يجرون فى أماكنهم إلى اليوم».
دمجت نورا ناجى فى سنوات الجرى فى المكان بين أكثر من تقنية سردية، قسمت رواياتها منذ البداية إلى شخصيات رئيسية، كل منها لها فصلها الخاص المقسم إلى بدوره إلى مباحث أقصر، وذلك عبر سرد درامى متعدد اقتطافى، فكل الشخصيات يجمع بينها حدث رئيسى، ولكن أيضًا كل منهم يراه من وجهة نظر مختلفة، بالإضافة ذلك ربطت الكاتبة بين كل شخصية وبين أحد الحواس، سعد والنظر، ياسمين والتذوق، مصطفى والصوت وهكذا، ولكن لم تكتف بذلك، بل أخذت التعددية السردية خطوة إضافية أوسع كثيرًا.
استخدمت الكاتبة لكل شخصية أسلوبا أدبيا مختلفا متصلا بشكل أساسى بالجزء الخاص به من الرواية، فياسمين المدونة السابقة التى اكتسبت جزءا كبيرا من علاقاتها وتغيرت حياتها فى عصر المدونات جاء فصلها عبر شكل التدوينات، سعد الفنان البصرى قسمت أجزاء قصته إلى ألوان، مع كل لون نقرأ زاوية جديدة، وفى النهاية نانا تكتب الجميع فى روايتها التى تضم كل فصول الحكاية.
هذه التعددية سمحت لنورا ناجى إعطاء صوت ولغة وأسلوب ولزمات خاصة لكل شخصية، صورة متكاملة تجعل كل أفعاله ومخاوفه مبررة ومفهومة، ولكن فى النهاية شخصياتها كلها تعود إلى نقطة مركزية، وحدث رئيسى بدأ عنده كل هذا الجرى فى المكان، هذا التوقف فى الزمن، حدث تاريخى ساهم فى إحياء مباغت وقتل بطىء لجيل كامل.
تبدأ الرواية بفصل سعد، ومشروعه الفنى الجرى فى المكان، الذى تسبب فى سجنه خلال عصر مبارك، ثم تنتقل إلى الحدث الرئيسى ثورة يناير، وجيلها الذى ظن إنه يغير التاريخ، ويعيد كتابة قصة الشعب المصرى، ليكتشف أنه حُبس فى هذه اللحظة، وأمضى عشر سنوات بعد ذلك فى الجرى فى المكان، تجمدت شخصيات الرواية يوم جمعة الغضب، يجرون مثل سعد فى فقاعة شفافة عملاقة، لا يستطيعون المضى قدمًا أو العودة للخلف.
سنوات الجرى فى المكان رواية الكتابة عنها تجعلها معقدة، متعددة التقنيات والطبقات والدلالات، ولكنها فى ذات الوقت جاء كل ذلك فى نسيج متشابك ومتين وسهل القراءة، لا تحتاج إلى قارئ خاص أو متلق ذى مرجعيات أدبية لتذوقها، يمكن الاستمتاع بها كقصة مسلية، أو أحجية ذكية، ولكن الأهم هى تجربة تترك فى حلق القارئ بعض المرارة والكثير من الرهافة.
بين كمامتين
«سألها: لماذا ننسى الراحلين بهذه السهولة؟ ننساهم على الرغم من أنه من المفترض أن يحدث العكس؟ لماذا وجدوا أصلًا إن كانوا سيتلاشون فى النهاية؟ سننسى أصواتهم، ثم طريقتهم فى المشى، ثم لمسة أيديهم عند المصافحة ثم روائحهم، وفى النهاية ستتحول الوجوه إلى كتل معتمة، عجين بلا ملامح».
تقع أحداث رواية «سنوات الجرى فى المكان» بين عامى 2011 و2021، عشر سنوات فى بدايتها كمامة، ونهايتها كمامة، الأولى كمامة ارتداها ثوار يناير للحماية من قنابل الغاز التى تلقيها عليهم قوات الشرطة خلال ثورة يناير، والثانية كمامة ارتداها العالم بالكامل مع انتشار وباء الكورونا.
فى الحالتين الكمامة استُخدمت للحماية من وحش لا يمكن إمساكه أو رؤيته ولكنها كذلك بداية إخفاء للهوية، ارتداها الثوار لتحدى السلطة فأصبحوا أسرى هذا الاختفاء المؤقت للحماية، فكل من كشف وجها بصور مجازية أو حقيقية أصبح أحد أسرى الجرى فى المكان، بينما محت كمامة الكورونا هوية مرتديها على مر شهور الحجر الصحى، أصبحوا أسرى الحبس المنزلى، الخوف من الآخر، مرضى بكرب ما بعد الوباء وعدم القدرة على التعامل مع العالم بدونها.
سعد ومصطفى وياسمين ويحيى ونانا خمس شخصيات تجمد بها الزمن، خمس أمثلة على شباب ثورة يناير وكيف تعاملوا مع ما بعدها، الأول اغتيل فى معركة الجمل، ياسمين ماتت وهى حية، أقنعت نفسها أنها جثة فى انتظار الرحيل، فقدت مذاق الحياة، مذاق الطعام، أصبحت جثة تتنفس على هامش الحياة، مصطفى رحل، وترك خلفه وطنًا وحبًا، يجرى فى حياة ثابتة لم يخترها لنفسه مع عروس لا يهتم لها، ومهنة مثالية لكن فقد شغفه بها، أكثر ما يذكره بالنسخة القديمة من نفسه، صورة يلتقطها بشكل دورى للميدان يكتشف عبرها كيف كانوا وأين أصبحوا، بينما يحيى هو ابن الثورة الذى قرر التنصل منها، حاول الجرى بعيدًا عن هذا المكان والزمان، ولكن مهما ابتعد ما زال يجذبه بخيط مطاطى لا ينقطع، حبيس ماض مهما حاول إنكاره يطارده، ونانا هى كل هؤلاء، أصيبت بالرصاصة مع سعد، وسافرت مثل مصطفى، ماتت وهى حية كياسمين، وحاولت إدارة ظهرها لكل ما حدث، فتجمدت فى مكانها.
موتيفة أخرى متكررة بين شخصيات الرواية هى الأب، الأب بغيابه أو بحضوره الباهت، سعد فقد أباه فى عبارة السلام التى غرقت فى التسعينيات فظل يطارد ذكراه طوال حياته، بينما مصطفى تيتم عاطفيًا وأبيه حى عندما رفض الأخير القيام بدوره، ياسمين تعانى فى ظل أب محب ولكن تقليدى لا يتفهم تطورها المفاجئ ولا موتها المفاجئ، بينما يعتقد يحيى إنه السبب فى رحيل أبيه، وظهر والد نانا فى موضعين، الأول عندما استلم قصيدة أمل دنقل من مصطفى، والثانية عنها يسألها الموافقة على العريس الذى سيصبح فصلًا جديدًا من الجرى فى المكان.
ما يطرح سؤلًا هل كان الأب الغائب فى رواية «سنوات الجرى فى المكان» دافعًا لكل شخصياتها للبحث عن أمل يغير حياتهم التعسة، عن ثورة تجعلهم لا يشبهون هذا الحضور الباهت للأب الغائب؟
فى فصل نانا الذى يدور حول محاولتها كتابة رواية عن قصتها هى وأصدقائها تظهر نورا ناجى واضحة، تتقمص نانا، وتأخذ القارئ فى رحلة كتابتها للرواية، تكشف له ورقها، وتناقشه صراحة فى الطريقة المثلى لتناول الزوايا المختلفة التى يمكن أن تبدأ منها وترى عبرها قصتهم، وقصة ثورتهم، وقصة هزيمتهم.
تثبت نورا ناجى فى النهاية إنها الخمس شخصيات الرئيسية معًا، هى الفنانة التشكيلية والسمعية والروائية والمسرحية والشاعرة والمدونة، هى بنت من بنات الثورة، وهى تحاول مثل غيرها التوقف عن الجرى فى المكان.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك