ثورتان فــى عمـر واحـد

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 2 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أقصد بالثورتين، ثورة يوليو 1952، وثورة يناير 2011، وأقصد بالعمر الواحد عمرى أنا.

 

كنت فى السابعة عشرة من عمرى عندما قامت ثورة 1952، ومن ثم كنت واعيا بما فيه الكفاية بما يجرى من أحداث سياسية، وها أنذا مازلت أعى ما يجرى (أو هكذا أظن) من أحداث ثورة 2011. وقد خطر لى أن أقارن بين ما نعرفه حتى الآن عن الثورتين اللتين تفصل بينهما ستون عاما، عسى أن يساعدنا ما نكتشفه من أوجه الشبه والاختلاف على فهم بعض ما يجرى الآن فى مصر.

 

الفوارق شديدة بالطبع بين شخصية الملك الذى خلعته ثورة 1952، والرئيس الذى خلعته ثورة 2011، ذلك ملك ابن ملك، يعرف منذ نعومة أظفاره أن مصيره أن يجلس على عرش البلاد، وهذا رجل عادى من أسرة متواضعة، وصل إلى الحكم بما يشبه المصادفة البحتة. ولكن سخطنا كان شديدا على كل منهما قبل أن يتم عزله وكان شعورنا نحو كل منهما ينطوى على درجة لا يستهان بها من عدم الاحترام، بصرف النظر عما كان يطبق فى عهديهما من سياسات، وعن أسباب عدم الاحترام فى الحالين.

 

كانت القصص تتوالى على أسماعنا عن جرائر الملك وسوء سلوكه، على موائد القمار والخمر، وعن مغامراته النسائية، والتى كانت تفصح أيضا عن قلة اهتمامه بشئون الوطن. أما حسنى مبارك، فكانت القصص تتوالى عن نصيبه المحدود جدا من الذكاء والثقافة، وعن قلة اهتمامه أيضا بشئون الوطن، واتجاه اهتمامه إلى توافه الأمور مما لا يليق برئيس البلاد.

 

كان شعورنا قويا بالظلم الاجتماعى، ولكن الظلم الاجتماعى كان يتخذ صورتين مختلفتين جدا فى الحالين، كان المصدر الأساسى للظلم فى حالة 1952 نظام الملكية الزراعية، واستئثار نسبة لا تزيد على 1٪ من السكان بالجزء الأكبر من الأراضى الزراعية، بينما كانت الغالبية العظمى من المصريين لا يملكون أى أرض على الإطلاق. أما فى حالة 2011 فكان أهم مصدر للظلم الاجتماعى قدرة عدد صغير جدا من الناس، لا يزيدون أيضا على 1٪ من السكان، بسبب قربهم الشديد من السلطة، على نهب أموال الدولة بطريقة أو أخرى، إما بالحصول على الأراضى (خاصة أراضى البناء) بسعر بخس، أو شراء أصول القطاع العام بأسعار بخسة أيضا، أو الحصول على قروض من البنوك المملوكة للدولة دون ضمانات كافية ثم تهريب الأموال إلى الخارج، أو الحصول على مختلف أنواع الامتيازات من الدولة بغير وجه حق، عن طريق الرشوة أو مجرد القرب من السلطة..إلخ.

 

 

فى الحالين كانت أكثر الشرائح الاجتماعية شعورا بالسخط وقدرة على التعبير عنه هى الطبقة الوسطى، فالطبقة العليا لا تشعر بالسخط أصلا لأنها هى المستفيدة من هذا الظلم، والشرائح الدنيا (أو الغالبية العظمى منها) تمنعها قلة حظها من التعليم ومن القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام، من التعبير عما تشعر به. كانت الطبقة الوسطى، فى الحالين، هى أكثر طبقات الشعب ثورية، ولكن هذه الطبقة الوسطى تغيرت أحوالها بشدة خلال الستين عاما الفاصلة بين الثورتين: كمَّا وكيفا.

 

ففى 1952، كانت الطبقة الوسطى لا يزيد نصيبها من إجمالى السكان على نسبة 20٪، فزادت هذه النسبة إلى أكثر من الضعف فى 2011. وكانت هذه الطبقة تتركز أساسا فى أكبر مدينتين: القاهرة والإسكندرية، فإذا بها فى 2011 قد انتشرت فى مختلف المدن والأقاليم. كانت المظاهرات السياسية قبل 1952 كثيرا ما تردد هتاف «يحيى نضال الطلبة مع العمال»، وكأنه ليس هناك مناضلون سياسيون غير طلبة المدارس والجامعات والعمال الصناعيين، وهؤلاء وأولئك كانوا على أى حال قليلو العدد، فى ظل العدد المحدود من طلبة الجامعات وضآلة مساهمة الصناعة فى الاقتصاد. فلما بلغنا سنة 2011، أصبح من الممكن تعبئة مئات الآلاف بل الملايين من المتظاهرين، ليس فى القاهرة والإسكندرية وحدهما، بل فى مختلف المدن والأقاليم، وليس من الطلبة والعمال وحدهم بل من مختلف شرائح الطبقة الوسطى، بل وبعض شرائح الطبقة الدنيا أيضا التى حصلت على بعض التعليم، وزاد وعيها بما يجرى حولها.

 

لم يمكن للمرأة المصرية إلا وجود محدود للغاية فى ثورة 1952، فأصبحت ملء السمع والبصر فى ثورة 2011، فقد زاد نصيبها، خلال الستين عاما الفاصلة بين الثورتين فى معاهد التعليم والوظائف الحكومية والنشاط العام، وكان لابد أن يظهر أثر ذلك فى الميادين المملوءة بالمتظاهرين والمتظاهرات فى 2011، وفى نسبة النساء والفتيات من ضحايا هذه الثورة.

 

لم يكن مدهشا أن يقوم بالثورة فى 1952، عدد محدود من ضباط الجيش، يبدأون باحتلال الإذاعة ومبنى قيادة الثورة فى القاهرة، ثم يقتحمون قصر الملك فى الإسكندرية. بينما يقوم بالثورة فى 2011 الجماهير الغفيرة التى تحتل الميادين فى مختلف المدن المصرية، الكبيرة والصغيرة. فهل كان من الطبيعى أيضا أن يبدأ الأمر فى 1952 بانقلاب يتحول شيئا فشيئا إلى ثورة، بينما يبدأ فى 2011 بثورة توشك أن تتحول شيئا فشيئا إلى انقلاب؟

 

كان هذا هو بالضبط ما حدث: فالذى حّول انقلاب 1952 إلى ثورة، هو ما اتخذته حكومات ما بعد 1952 من إجراءات أحدثت تغييرات عميقة فى الاقتصاد والمجتمع المصرى، بدأ اتخاذها بعد أقل من شهرين من قيام الثورة (الإصلاح الزراعى، إلغاء الألقاب، تأميم قناة السويس، بناء السد العالى، إعداد وتنفيذ خطة ومشروعات طرح للتصنيع والتنمية، تأميمات 1961، تعميم الخدمات المجانية أو شبه المجانية فى التعليم والصحة والإسكان..إلخ)، بينما ها قد مرّ عام كامل على ثورة 2011 دون أى إجراء ذى شأن لتغيير الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، إذ تسلّم السلطة من أيدى ثوار 2011 مجلس عسكرى لا يبدو متعاطفا بالمرة مع أهداف الثورة.

 

من المفيد أيضا أن نقارن بين موقف الدول الكبرى من الثورتين. كانت القوات البريطانية فى 1952 ترابط على طول قناة السويس، وكان بقدرتها بلا شك إجهاض الانقلاب العسكرى لولا ما أبدته الولايات المتحدة من تأييد للانقلاب، والعلاقة الخاصة التى كانت قائمة حينئذ بين بريطانيا والولايات المتحدة. من المؤكد أن الولايات المتحدة طلبت من بريطانيا عدم التدخل ضد الانقلاب، وأنها قامت بتأييد ثورة 1952 ودعمها بالمعونات الاقتصادية حتى منتصف السيتينيات، كجزء (على الأقل) مما فرضته عليها الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتى. أما فى ثورة 2011 فليس من الواضح تماما الموقف الأمريكى منها، وهل تؤيد الولايات المتحدة الثوار أم المجلس العسكرى، بل وليس من الواضح حتى موقفها من المجلس العسكرى نفسه.

 

هناك أيضا فارق مهم يتعلق بمركز الحركات الدينية فى الثورتين. ففى حالة ثورة 1952، اتخذ عبدالناصر فى مرحلة مبكرة من الثورة موقفا معاديا للغاية من الإخوان المسلمين، فوجه إليهم التهام فى 1954 بمحاولة اغتياله، ثم اتهامهم بتنظيم انقلاب مما أدى إلى إعدام بعض زعمائهم فى 1965. أما فى حالة ثورة 2011 فيبدو على العكس، أن هناك وئاما تاما بين المجلس العسكرى وجماعة الإخوان. فهل يرجع هذا الوئام يا ترى إلى ازدياد قوة الجماعة والحاجة إلى ترضيتها فى عصر يتكلم لغة الديمقراطية؟ أم أن موقف بعض القوى الكبرى، وعلى الأخص الولايات المتحدة، من جماعة الإخوان، قد تغير عما كان منذ ستين عاما، فتحولت العداوة إلى صداقة؟ فإذا نظرنا إلى هذا التغيير المهم فى موقف بعض الدول الكبرى من ناحية، وفى مركز الحركات الدينية من ناحية أخرى، فهل يلقى هذا التغيير وذاك ضوءا على الاختلاف الشديد بين مسار ثورة 1952 عن مسار ثورة 2011؟ الثورة الأولى حققت تقدما منتظما لفترة تزيد على عشر سنوات، بينما يصيب الارتباك والاضطراب مسار الثورة الثانية بعد أقل من عام من قيام الثورة؟

 

●●●

 

 

فليسمح لى القارئ بأن أنهى المقال بملاحظة شخصية بحتة. عندما قامت ثورة 1952، كنت أنا وإخوتى، (ولم يكن معظمنا قد بلغ الثلاثين من العمر) شديدى الحماس للثورة، بينما لاحظت أن أبى (وكان عمره قد جاوز الخامسة والستين)، وإن كان يؤيد الثورة وراضيا عنها بسبب سخطه على العهد الملكى، كان حماسه لها فاترا، ولم يبد عليه ما كنا نبديه نحن الشباب من ابتهاج شديد بها. كنت أظن وقتها أن المرض هو سبب قلة حماسه، ثم أدركت فيما بعد أن السبب الأهم كان كثرة ما رآه من تغييرات وتقلبات فى مسار السياسة المصرية والمجتمع المصرى، من صعود وهبوط، وانتصار يعقبه انتكاس. وها أنذا ألاحظ أنى، عندما قامت ثورة 2011، وكان عمرى قد تجاوز الخامسة والسبعين، وإن كنت قد اغتبطت بها بشدة فقد كنت أقل حماسا من الشباب، وكأنى أنا أيضا، بسبب ما شهدته فى حياتى من تطورات السياسة والمجتمع المصرى، لم أكن أستبعد حدوث انتكاسة مثلما حدث من قبل.

 

ومع هذا، فقد لاحظت أيضا أننا نحن الأكبر سنا، لدينا ميزة بالمقارنة بالشباب. فعندما بدأ الانتكاس بالفعل، وجدت أنى أقل استسلاما لليأس، وأكثر استعدادا للتفاؤل بالمستقبل، بالمقارنة بكثير من الشباب. إن من السهل إثارة حماس الشباب، ولكن من السهل أيضا إصابته باليأس، بينما نحن الأكبر سنا، من الأصعب إثارة حماسنا، ولكن من الأصعب أيضا إصابتنا باليأس. ها أنذا أشعر بالتفاؤل الشديد كلما فكرت فى هذا الجديد الرائع من الشباب الذى قام بثورة 2011، رجالا ونساء، فأجده أكثر ثقة بنفسه مما كان جيلنا فى 1952، وأكثر طموحا، وأكثر معرفة بما يجرى فى العالم، وأقدر وأشجع منا فى التعبير عن نفسه، كما أنه قام بصنع تركيبة بديعة من مزايا الانفتاح على العالم، ومزايا الولاء لتراث بلده وأمته. هذا الجيل الجديد هو الذى يضمن لمصر أن تحقق إنجازات رائعة فى المستقبل، وإن لم يبد هذا المستقبل واضحا الآن للأعين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved