ثورة

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 1 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

… ولما علم السيد المسيح بمرض أليعازر، ترك ما كان فيه فى شرق نهر الأردن، وعبره إلى أريحا، وظل مسافرا على طريق القدس إلى بلدة بيت عنيا (والتى يقال لها الآن العيزرية أى بيت أليعازر). وكان أليعازر وأختاه مريم ومرتا من المؤمنين، وكانوا مقربين من السيد المسيح، فكان ينزل فى ضيافتهم حين يكون فى المنطقة، فبيت عنيا لا يفصل بينها وبين أورشليم القدس سوى ثلاثة كيلومترات فقط.

 

هكذا تبدأ قصة الأسبوع الأخير من حياة السيد المسيح، عيسى عليه السلام، على الأرض، ويبدأ تصاعدها الدرامى بأن يرتحل المسيح ويأتى إلى بيت عنيا، بالقرب من القدس، لأنه عرف أن صديقه مريض ــ هذا بالرغم من أن الكل يعرف أنه فى خطر هنا، فالقدس هى مركز السلطة، والسلطة باتت تشعر بأن رسالته تهددها.

 

والسلطة فى فلسطين مركبة؛ فهناك السلطة المحلية الحاكمة للبلاد، وهناك السلطة العالمية المهيمنة. الحكومة هى مجالس محلية من الكهنة من أهل البلاد يديرون شئونها، ومجلس عظيم فى العاصمة. وعلى نهج الإدارة فى الزمن القديم ليس هناك فصل بين الدين والدولة، فالتوراة هى القانون والقانون هو التوراة ــ لكن هناك بالطبع مذاهب مختلفة فى تفسير التوراة/القانون (فمثلا بالنظر إلى الحكم التوراتى «العين بالعين» كان حزب يفسره بوجوب دفع تعويض معلوم للعين، وحزب ثان يفسره بوجوب قلع عين بالمقابل) واختلاف التوجهات المذهبية فى ارتباطه بالسياسة اليومية يؤدى إلى انشقاقات وخصومات فى الطبقة الحاكمة تجعل كلا منها تحاول الاستقواء بالقوة المهيمنة. والقوة المهيمنة العالمية هى الإمبراطورية الرومانية، ولها حاكم عسكرى رومانى يحكم البلاد نيابة عن الإمبراطور فى روما. والسلطتان تعتمدان تماما على موارد البلاد وضرائب أهلها، فهمها الأساسى هو المحفاظة على الاستقرار وثبوت الأحوال السياسية والاجتماعية ودوران عجلة الاقتصاد التى تحفظ أسلوب حياة كبار الكهنة والموظفين وأصحاب المال والنفوذ، وتضمن وصول الضرائب إلى روما.

 

يصل السيد المسيح إلى بيت عنيا يوم السبت، وتخرج مرتا للقياه، وتخبره أن أليعازر مات منذ أربعة أيام، وبشىء من اللوم تقول «لو كنتَ هنا ما كان مات». ويستعين السيد المسيح بالله ويحقق إحدى معجزاته فيقوم أليعازر من القبر سليما معافى. وينتشر خبر المعجزة فى البلاد فتزداد شعبية عيسى بن مريم، وفى اليوم التالى، الأحد، يتوجه إلى القدس نفسها، ويدخلها فى تحد واضح للسلطات؛ فهو يدخل المدينة وسط تهليل شعبى وهتافات «خلصنا! خلصنا الآن!»، ويدخلها راكبا حمارا فتيا عنوانا على التواضع ورفض علامات الكبر الدنيوى، فيفرش الناس أمامه الزهور وسعف النخيل ترحيبا، ويحوطونه ويهتفون طلبا للخلاص.

 

يكتفى المسيح بهذا الزخم الشعبى يوم الأحد، ويعود إلى بيت عنيا فيبيت فيها. ثم يصبح فى اليوم التالى فيتجه مرة أخرى إلى القدس ــ وفى يده سوط من الحبال المجدولة. يغلبه الحزن على أبواب أورشليم إذ يرى الدمار الذى سوف يحل بالمدينة إن هى فى النهاية رفضت الخلاص الذى يأتيها به؛ يبكى الفرصة الضائعة، الفرصة التى سوف يضيعها أهل المدينة إن هم رفضوا «مملكة السماء» التى يأتيهم بها. ومع ذلك فهو يدخل إلى المدينة، ويذهب إلى الهيكل، وهو مركز الحياة السياسية والدينية والإدارية، وهناك يطلق العنان لثورة غضبه. يرى الأحواش مليئة بالبهائم والطيور تباع وتشترى، ويرى كاونترات الصرافة تبدل العملة وتقدم القروض، يثور «كيف لكم أن تحولوا بيت الله إلى سوق؟» يرى ضريبة دخول الهيكل تصل إلى ما يزيد عن أجر يومين للعامل، ويرى الكهنة يبيعون للناس طيورا وحيوانات «صالحة» للتقديم كنذر أو قربان بعشرة أضعاف سعرها فى السوق، يثور: «بيت الله للعبادة وحولتوه إلى وكر للصوص»، يرى البهائم والتعاملات والتجارة تتم فى الحوش المخصص لغير اليهود مما يلهيهم عن تعبدهم ويمنعهم عنه، يثور: «ألم يُكتَب أن بيت الله بيت عبادة للأمم أجمعين؟» تعامل المسيح الثائر بعنف، لكنه عنف محسوب، قلب كاونترات المال وطرد التجار، أخرج البهائم من المكان، أمر بإخراج الطيور ولكن فى أقفاصها. أى أنه لم يبدد ملكا ولم يتسبب فى خسارة لفرد، لكنه عبر تعبيرا قويا عن رفضه لنظام بأكمله، نجح فى يومها ذلك ــ الواقع منذ نحو ألف وتسعمائة وثمانين عاما من أسبوع الآلام الذى نحتفل به اليوم ــ فى بعثرة النظام وشلِّه وزرع بذرة انهياره.

 

إن غضب المسيح لم يكن لما يخصه ولا حتى لما يخص أهله وأهل دينه؛ بل كان غضبا للشأن العام، كان غضبا للشعب الذى يُسرق ويهمش، وكان غضبا لبيت الله الذى يُستباح، وكان غضبا على حكام يحكمون باسم الدين ويتواطئون مع سلطة محتلة على حساب الشعب. فى اليوم التالى يعود السيد المسيح إلى الهيكل حيث تواجهه السلطة، ويسألونه أمام الملأ: «من أعطاك الصلاحية لتقوم بهذه الأعمال؟» ولنذكر أن الحكومة هنا هى أيضا رجال الدين، أى أن لهم وحدهم أن يتكلموا باسم الرب. ويرى السيد المسيح الفخ المنصوب له، فيجيب عن سؤالهم بسؤال: «أجيبونى أجيبكم: هل كان تعميد يوحنا من السماء أم من الأرض؟» ويوحنا المعمدان، الصديق والمقرب من المسيح، بل المعمدان الذى عمّد السيد المسيح نفسه بمياه الأردن، كان قد قتله النظام من فترة قريبة ــ وهى القصة الشهيرة عن سالومى ابنة هيرود ــ وكان الشعب يحبه ويعتقد فى رسالته ويراه شهيدا. فإن أجاب الكهنة أن تعميده كان من السماء أصبح للناس أن تسائلهم حول استشهاده وحقه. وإن أجابوا أنه لم يكن من السماء استثاروا غضبة الشعب، فأسقط فى يدهم وانسحبوا.

 

تنساب الرواية هادرة إلى العشاء الأخير، وسكب مريم أخت مرتا العطر الثمين على السيد المسيح، واعتراض يهوذا الإسقريوطى، ثم إبرامه صفقة مع رئيس الحكومة (المعين من قبل المحتل الرومانى) ليسلمه عيسى بن مريم نظير ثلاثين قطعة من الفضة، ثم المحاكمات المتتالية التى تحاول فيها كل مؤسسات النظام التخلص من السيد المسيح والتبرؤ من دمه فى نفس الوقت، والبلطجية المستأجرون ليقفوا أمام دار الحاكم ويطالبوا بدمه.

 

إن عقيدة «مملكة السماء» التى جاء بها السيد المسيح كانت عقيدة ثوررية بامتياز، فهى العقيدة التى بنيت على الإيمان بحب الله ورحمته لكل مخلوقاته سواسية، والتى أصرت على الروحانية فى الدين، والتى قدمت الضعفاء والأطفال والفقراء والمهمشين، والتى طالبت بالعدالة والنقاء فى الأرض كشرط للحياة الأبدية فى السماء. فلا عجب أن أصحاب التميز والمصالح ــ فيما عدا من تمتعوا بقدر من الرومانسية ــ استشعروا فى رسالة المسيح خطرا كبيرا، ولا عجب أن الجموع جذبت إليها، وأنها لم تزل قادرة على إلهام المواقف الشجاعة (انظر لاهوت التحرير والكنيسة فى أمريكا اللاتينية) والقيام بدور كبير وملهم فى بحثنا عن عالم جديد. فسلام عليك يا عيسى، سلام عليك يوم ولدت ويوم تموت ويوم تبعث حيا، سلام عليك من مصر فى أسبوع الآلام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved