ما بعد اغتيال النائب العام

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 1 يوليه 2015 - 10:35 ص بتوقيت القاهرة

اغتيال النائب العام حدث جلل سوف يلقى بظلاله الكثيفة لحقب مقبلة على الحياة السياسية المصرية.

فى اللحظة التى دوت التفجيرات فى قلب موكبه طويت صفحة وبدأت أخرى من الصراع بين الدولة والإخوان.

ورغم أن التحقيقات لم تكشف حتى الآن الجهة التى دبرت ونفذت، اخترقت وضربت، إلا أن الاتهامات لاحقت الجماعة وبعض منتسبيها لم يترددوا فى إثبات صحتها بالشماتة فى القتل والتهليل للترويع.

من حيث الأثر السياسى الاغتيال أقرب أن يكون إعلان قطيعة نهائية مع فكرة «المصالحة» وتصعيدا مفتوحا فى المواجهة.

بتلخيص ما خسرت الجماعة أية فرصة ممكنة لتصحيح أوضاعها أو اكتساب أى تعاطف معها وخسرت فى الوقت نفسه أية ادعاءات بانتسابها إلى السلمية أو أية قيمة ديمقراطية أخرى.
ومن حيث الأثر التاريخى فإن الاغتيال يقوض أية «مظلومية» منسوبة للجماعة ويشكك فى أن يكون لها مستقبل على الخريطة السياسية.

فى أربعينيات القرن الماضى أفضى اغتيال القاضى «أحمد الخازندار» على يد التنظيم الخاص إلى ما يشبه الزلزال فى المجتمع المصرى.

وقد حاول المرشد المؤسس «حسن البنا» أن يتبرأ من الاغتيال غير أن رائحة دم «الخازندار» ظلت تطارد جماعته عبر العقود المتتالية.

باليقين فإن رائحة دم المستشار «هشام بركات» سوف تطارد قاتليه فى الذاكرة العامة وعلى صفحات التاريخ.

أيا كانت الانتقادات التى توجه لمؤسسة العدالة إلا أن إطلاق النيران على منصاتها العالية من الجرائم التاريخية التى لا تغتفر وتفضى نتائجها السياسية إلى أوخم العواقب بحق مرتكبيها.

بالنظر إلى سياق واقعة اغتيال النائب العام فإنها تومئ لموجة من الاغتيالات غير المستبعدة لشخصيات قضائية أخرى أو سياسية وإعلامية.

الوصول إلى شخصية بحجم النائب العام إشارة سلبية للغاية تكشف فشلا أمنيا ذريعا.

لم تكن هناك مفاجأة فى استهداف حياة النائب العام، فقد تعرض لأكثر من محاولة اغتيال واسمه على رأس القوائم المعلنة.

ولم تكن هناك مفاجأة فى التوقيت، فالإشارات تواترت على عمليات إرهابية محتملة تواكب الذكرى الثانية لـ(٣٠) يونيو.

الاعتراف بالتقصير الأمنى والحساب عليه والعمل على سد ثغراته من جدية أية مواجهة مع الإرهاب وجماعاته.

بطبيعة المواجهات المفتوحة لا يوجد أمن مطلق يلغى كل العمليات الإرهابية المحتملة غير أن التقصير الأمنى الفادح قضية أخرى.

وبطبيعة المواجهات نفسها فإنها سوف تطول ولا يجدى معها الصراخ الإعلامى وبعضه أفلت عياره أمام العالم الذى يتابع ويسمع.

لا هو معقول ولا مقبول بأى مكان فى العالم التحدث باستخفاف عن قيم حقوق الإنسان والحريات العامة ودولة القانون كأنها حواجز تمنع مواجهة الإرهاب بكل حزم.

الكلام على هذا النحو يسىء إلى صورة البلد كأنها تحولت إلى غابة وفقدت دولتها سيطرتها على زمام الأمور.

أكثر ما تحتاجه مصر الآن تحت الصدمة أن تتحكم فى أعصابها وتنظر فى خطواتها التالية بحزم من يعرف أهدافه وتعقل من يدرك الحقائق حوله.

فى الدعوة المتعجلة إلى إعلان حالة الطوارئ هزيمة مبكرة أمام الإرهاب تبدو خلالها الدولة كأن الذعر أصابها.

الدولة المذعورة التى تصرخ وتفلت أعصابها غير الدولة القوية التى تقرر وتحزم سياساتها.
هناك فارق جوهرى بين الحزم والانفلات.

الأول، يعنى أن تكون هناك استراتيجية شبه متماسكة فى الحرب مع الإرهاب والإجراءات الأمنية صارمة تسد الثغرات وتتحسب للمفاجآت وأجهزة المعلومات يقظة والكتل الشعبية والسياسية تؤيد وتؤازر.

والثانى، يفضى إلى فوضى فى بنية الأمن يضعف تماسكه وينال من ظهيره الشعبى ويدفعه إلى العراء السياسى.

بكل وضوح: الاستهتار بدولة القانون يصب فى المجهود الحربى للإرهاب.

أيا كان الغضب جامحا ومشروعا فإن الدول لا تدير معاركها بانفلاتات الأعصاب أو دعوات الدوس على القواعد القانونية.

الفارق بين الدولة والعصابة هو فى التزام الأولى بالقواعد وخروج الثانية عن أية قواعد.

حتى الإجراءات الاستثنائية فإن الدستور ينظمها.

بعبارة أخرى تخسر مصر معركتها مع الإرهاب فى اللحظة التى تدوس فيها على القانون.

الدوس على القانون يعنى بالضبط تفويض مفتوح بانتهاك كرامات الناس بلا تهمة والتوسع فى الانفلاتات الأمنية بحق المواطنين العاديين.

وهذا ينزع الغطاء الشعبى عن الأمن فى لحظة حرجة من الحرب مع الإرهاب.

نعم الحزم ضرورى لكن الانفلات جريمة.

وهذا كلام فى السياسة قبل الأمن.

بقدر ما تستطيعه الدولة من إصلاح فى منظومة العدالة بشقيها القضائى والأمنى فإنها تكسب خطوات حاسمة فى الحرب مع الإرهاب.

وبقدر ما تقدمه من نموذج للعدل والحرية فإنها تكسب معركتها فى الضمائر العامة قبل ميادين المواجهة.

المستشار «هشام بركات» هو رجل قانون والانتصاف لدمه يكون بالقانون وحده.

أية أحاديث منفلتة تسىء إلى سمعة بلد نائبه العام اغتيل بعبوة متفجرات روعت حى بأكمله.
المحامون السيئون يخسرون القضايا العادلة.

نتساءل أحيانا باستغراب: لماذا لا يتعاطف العالم مع ما نقوله؟!

اغتيال النائب العام جريمة لا يحق لأحد أن يسوغها إلا أن يكون ملتاثا ومع ذلك لم نكسب هذه القضية العادلة بالقدر المناسب ولا عرفنا كيف نعرضها على الإنسانية المعاصرة.

بالطريقة نفسها خسرنا معركة الصورة فى (٣٠) يونيو التى كانت إرادة شعبية بكل معيار ومشروعة بأى قياس ومنعت انزلاق البلد إلى احتراب أهلى وفوضى لا قومة بعدها.

اغتيال النائب العام دليل جديد على صحة ما توجهت إليه (٣٠) يونيو التى سدت تظاهراتها الميادين والشوارع والأزقة بعشرات الملايين غير أن افتقاد النموذج الملهم يعرقل المهمة الملحة.

ما تحتاجه مصر وهى تلملم جراحها وتفتح صفحة جديدة من الحرب مع الإرهاب أن تتقدم بنموذج يلهم لا بصراخ يزعج.

المعنى رد اعتبار «يونيو المختطفة» وما سعت إليه من بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة وأن نعترف فى الوقت نفسه أن الكتل الجماهيرية التى تصدرت مشاهدها تكاد تغيب بصورة كاملة.

غياب المواطن العادى، الإنسان البسيط، هو أسوأ حصاد لثورة شعبية لم يكن ممكنا أن تنتصر بدونه.

فى الجور على حقوقه إضعاف لمناعة الدولة يفقدها سندها الشعبى عند منعطف صعب فى الحرب مع الإرهاب بعد اغتيال النائب العام.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved