عوائق تجديد الخطاب الديني.. 27ــ غياب التخصص والاختصاص-أ

جمال قطب
جمال قطب

آخر تحديث: الجمعة 1 يوليه 2016 - 9:11 م بتوقيت القاهرة

الخطاب الدينى مثل سائر الخطابات، خطاب علمى فى أصله، وعملى فى ممارسته. وذلك الأمر يجعله متخصصا تخصصا يميزه عن غيره ثم يحتوى ذلك التخصص على تخصصات دقيقة أخرى. ثم إن ممارسة حمل الخطاب وتبليغه فى مسيس الحاجة إلى قدرات متفرغة مؤهلة تختص بحمل هذه المسئولية الخطيرة.. وواقع الأمة وواقع خطابها الدينى يشهدان بعدم التخصص وعدم الاختصاص.

ــ1ــ

حينما بقى الأزهر الثمانية قرون الأولى من عمره متخصصا فى الإعداد ومختصا فى الممارسة، بقيت مصر ومعها الأمة كلها قوية تصد أى عدوان خارجى، كما بقيت آمنة من أى قلق فكرى. ويشهد لذلك تاريخ تلك القرون الثمانية التى لم تستطع الأعداء اقتحامها من أى ثغرة، وكان نهاية تلك الحقبة القوية عند قيادة الأزهر وحده للكفاح الشعبى ضد الحملة الفرنسية (نابليون/ كليبر/ مينو) بعد أن سقط أمام تلك الحملة الحامية العثمانية ثم قوات المماليك، وانفرد الشعب وراء الأزهر يواجه تلك الحملة حتى خرجت تجر أذيال الفشل.

ــ2ــ

كان الأزهر خلال تلك القرون الثمانية هو وحده مصدر التنوير والتعليم والتثقيف بصفة عامة لجميع البلاد فضلا عن اضطلاعه بمسئولية صنع الخطاب الدينى أولا ثم بثه إلى الكافة ثانيا ثم قيادة الناس فى التزامهم وإقبالهم على اتباع تعاليم ذلك الخطاب. وكان من حسنات تلك الحقبة اكتفاء كل مدينة أو قرية بمسجد جامع يتولى مسئوليته أحد الأزهريين المؤهلين لذلك العمل والمرخص لهم بصعود المنبر، حيث ثبتت كفاءته ودرايته بأمرين: أسس الخطاب وقيمه ومقاصده من ناحية، ثم حسن إدراكه للواقع وما يحتويه من عوامل قوة أو أسباب ضعف.. الأمر الذى جعل الخطاب الدينى خلال تلك الحقبة مقبولا من الشعب، مثمرا فى إحداث اليقظة وإيقاظ الشعور قادرا على توجيه كل فرد لما يحسنه. فإذا أضفت على ذلك «مناخ التعليم الأزهرى» وأبرز معالمه: 1ــ استثمار المساجد كمقر للتعليم مما يضفى على العملية التعليمية وقارا وطهارة وإلهاما للجميع بقداسة العمل وأهمية قربه من الله 2ــ امتحان القبول وعماده حفظ واستذكار القرآن الكريم كله باعتباره هو الأصل والأساس سواء فى الدراسة أو فى العمل 3ــ التواصل بين الشرائح المتعددة المتفرغة للدراسة 4ــ إيقاف الدرس لرفع الأذان ثم إقامة الصلاة 5ــ تكامل المقرر الدراسى من علوم آلة وعلوم موضوع وعلوم إنسانية وطبيعية بما يضمن تعرف الدارس على قدراته العامة والخاصة فيختار تخصصه العام وتخصصه الدقيق عن بينة مما يساعد فى الفلاح والإتقان.

ــ3ــ

فإذا أضفت إلى كل ذلك هذا المبدأ العلمى الرصين والصارم، ألا وهو مبدأ «التراكم العلمى»، فالكتاب الذى ألفه شيخ من الشيوخ لا يحتكر العقول ولا يستقل بساحة الدرس، إنما يقوم جيل آخر بوضع «شرح» لذلك الكتاب على هامش الكتاب ويكون الشرح مبينا من ناحية، محاورا من ناحية، منتقدا من ناحية، ثم مقترحا ومكملا ومتمما. كما تأتى الأفكار المتجددة بإضافات واستدراكات على الكتاب (المتن والشرح)، فيقوم أصحاب الاستدراكات بوضعها بجانب المتن والشرح وتسمى حاشية. وربما يوجد للمتن وشرحه أكثر من حاشية، فإذا استجمع الكتاب ما ينبغى له من الاكتمال جاء جيل آخر فاستوعب كل ما سبق ثم أضاف إليه ما يسمى «التقرير»، أى أنه يجمع وينسق ويجدد الثوابت والمتغيرات، والأصول والفروع، ونقاط التماس، ونقاط الافتراق فى ذلك العلم السابق الإشارة إليه. وهذه الطريقة هى التى أخرجت للأمة عقولا جبارة تقنع الجميع بعظمة وقوة وحيدة الخطاب الدينى فضلا عن احترامه ووقاره.

ــ4ــ

ولما انهزمت الحملة الفرنسية شر هزيمة وتحققت أوروبا أن السبب الأكبر لثبات مصر وهزيمة فرنسا هو الأزهر بمناهجه وأعرافه وتقاليده وبمكانته بين الناس، هنالك كتبوا فى مذكراتهم وبحثوا: كيف يمكن اختراق الأزهر ليسهل اختراق تلك البلاد؟ وكيف يتم الزحف لإقامة سور عال بين الناس وبين الأزهر ليبتعد الناس عن فهم الدين والتفاعل معه؟ هكذا بدأ التفكير واتخذ طريقه للتنفيذ وكانت القذيفة الأولى فى ذلك المشروع هذا «المخطط الإجرامى الناعم» من محمد على وأتباعه، ومازالت القذائف الناعمة تتوالى هدما لعوامل الصمود وإرساء لتقاليد اللهو والضعف والضياع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved