القاهرة: مدينتى وثورتنا (٣٣)

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 1 أكتوبر 2015 - 4:10 ص بتوقيت القاهرة

فى السنوات التى أوصلتنا إلى يناير ٢٠١١، حين كانت «حركة ٩ مارس» ــ وهى واحدة من الحركات الكثيرة التى شكلت حملاتها روافد الثورة ــ تطالب بالاستقلال الأكاديمى وشفافية الإدارة للجامعات، اشتهرت جامعة عين شمس بفساد إدارتها، فلما أقامت الحركة قضية فى المحاكم تدفع بعدم شرعية وجود قوات وزارة الداخلية داخل الحرم الجامعى وحكمت لها المحكمة بذلك، أتت إدارة جامعة عين شمس ببلطجية يلوحون بالجنازير ليُعَرِفوا هيئة التدريس قيمة ودور رجال الأمن. وبعد يناير ٢٠١١ سارعت القوى الثورية فى جامعة عين شمس بتثوير اللوائح وبإجراء الانتخابات، وانتخبت أول رئيس للجامعة بعد الثورة الأستاذ الدكتور علاء فايز، جراح أطفال مشهور، ومعروف بانحيازه للطلبة وللثورة. وحين استشهد علاء عبدالهادى وهو يحاول إسعاف الشيخ عماد عفت فى التحرير، اجتمع الدكتور علاء فايز باتحاد الطلاب وتحركت الجامعة. اثنان من أساتذة كلية الطب حضرا تشريح الجثمان، وقدم عميد كلية الحقوق بلاغا بالقتل العمد، ووصف الكتور علاء فايز فى حلقة تلفزيونية كيف دخلت الرصاصة جسد علاء تحت القلب وخرجت من رأسه ــ بما يعنى أن القاتل كان تقريبا ملاصقا له. نظمت الجامعة الأوتوبيسات للطلبة الذين أرادوا حضور دفن زميلهم، ومشى رئيس الجامعة والأساتذة فى جنازته.

أسوار كلية طب جامعة عين شمس والمستشفى الجامعى طلت ــ كما رأينا ــ على أحداث العباسية الأولى فى ٢٣ يوليو ٢٠١١، واتخذت قوات الأمن المركزى أراضى الجامعة ومستشفاها المتاخم للسور قاعدة يهاجمون منها المظاهرات. وفى أبريل ٢٠١٢، فى أحداث العباسية الثانية، سيكتشف الدكتور علاء فايز أن الأمن مرة أخرى يستغل أراضى جامعته ليهاجم منها المظاهرات وسيأمر بإغلاق الأراضى حتى نهاية الاشتباكات. وفى اليوم التالى، فى أول مايو، وفى طريقه على الدائرى لتفقد مبانٍ جامعية تحت التشييد، ستضرب سيارة نقل ضخمة آتية عكس الاتجاه سيارته، سيصاب سائقه وسكرتيره إصابات بالغة، أما هو فسيُقتَل الحال.

كل هذا سيحدث فيما بعد، فى شهور الاستعداد للانتخابات الرئاسية.

أما فى ديسمبر ٢٠١١ فننزل كل يوم لحيث يلتقى شارع البرلمان بشارع قصر العينى، حيث يحتل الجنود والضباط سطوح مبنى رئاسة مجلس الوزراء، ومن ذلك الموقع العالى، يبولون على المواطنين، ويقذفونهم بأطباق وسرفيسات الصينى عليها شعارات مجلس الشعب وبالدروع الاحتفالية من على حوائطه. فى مرة تنزل علينا دواليب الأرشيف المعدنية، ونعتاد أيضا على سقوط ألواح من الزجاج. وأحيانا تكون الحرب ضد أطفال الشارع ويحاول الثوار إبعاد الأطفال. طفل يقول: «كل يومين الحكومة تاخدنى، ياخدوا الفلوس اللى معايا ويعملوا فيا حاجات وحشة»، يقول إنه فى الثانية عشرة ــ لكن شكله يوحى بأنه فى الثامنة. هؤلاء الأطفال أغلبهم مقزمون، فتغذيتهم رديئة كما أنهم لا ينامون كما يجب للأطفال أن يناموا.

تنتهى أحداث «مجلس الوزراء» وقد تم اغتيال سبعة عشر شهيدا جديدا، وإصابة نحو تسعمائة مواطن.

نهاية ٢٠١١

فى ١٥ ديسمبر أطلقت المحكمة سراح الشباب الذين احتجزتهم القوات المسلحة على خلفية أحداث ماسبيرو ــ كلهم فيما عدا علاء. وفى جلسة علاء التالية، بعد عشرة أيام، أطلقوا سراحه هو أيضا. وأمرت المحكمة بمحاكمة الشاهدين اللذين شهدا ضده بتهمة شهادة الزور. امتلأ تويتر بـ«علاء على الأسفلت»، و«حمد الله ع السلامة يا أبوخالد»، وفى اليوم الأخير من سنة ٢٠١١، سنة الثورة، أقمنا سبوعا مؤجلا لخالد.

فى البيت الصغير فى جنينة أمى كنسنا الأرض وفرشنا الحصير وعلقنا لمض ملونة وأعلام مصر، وامتلأ المكان بالأهل والأحباب أتوا بما لذ وطاب من المأكولات، وشَغَلنا أغانى سعاد حسنى وعفاف راضى، ودقينا الهون وسَمَعنا خالد صوت الكون ورشينا الملح والسبع حبات وغربلنا النونو وبخرناه وغنينا له حلقاتك برجلاتك انزل واهتف ويا اخواتك ونبهنا عليه يسمع كلام ماما ويسمع كلام بابا ومايسمعش كلام الحكومة والمجلس العسكرى. جنينة أمى كانت تُشِع طاقة بهجة ومحبة ونور.

وفى المساء، بعد أن تم السبوع وانفضت القعدة، اتجه أكثرنا إلى الميدان، ميدان التحرير، بيت العيلة الكبير ــ أكبر بيت عيلة فى الدنيا. نزلنا التحرير ولحِقْنا الجزء الأخير من احتفالية رأس السنة وكورال كنيسة قصر الدوبارة يغنى «بارِك لمصر» فيصعد الدعاء إلى سماء التحرير مع البالونات والشماريخ، ثم جاءت أغنية «أنا باحبك يا بلادى» لتحيى كل مخزون الحزن والشجن والحب والإصرار عندنا، وكان الناس يقبلون على علاء أينما ذهب، يسلمون ويسألون ويقترحون ويدور النقاش حول المستقبل وحول ما يجب علينا عمله.

وفى نفس الوقت ظهر شخصان على موتوسيكل فى شارع جنينة أمى، وداروا يستجوبوا الناس عن الحفل الذى أقمناه ومن أتى إليه وماذا قيل فيه؟ ذهبوا فى الثالثة صباحا إلى بيت الغفير لكن زوجته لم تسمح له بالخروج إليهم لأن قلبه ضعيف وطبعه حامى فخافت عليه فتصرفت هى معهم. وفى الصباح علِمنا فذهبنا فى اليوم التالى، علاء سويف وأحمد سيف وأنا، لزيارة قسم شرطة كرداسة حيث شكونا الموضوع للعميد مأمور القسم ــ الذى قابلنا بكل لياقة واحترام ــ وأصرينا أن يسجل أسماءنا وأرقامنا برجاء إن اللى له طلب أو عايز معلومة يتصل بنا شخصيا ولا داعى لأن يلف حول الجنينة ويعمل قلق للجيران، فظل العميد يلف ويعود لسؤال إن كان عندنا مشاكل مع أحد وفى النهاية قلنا له «أيوة الحقيقة عندنا مشكلة مع المجلس العسكرى»، فأُسقط فى يد الرجل وقال يبقوا أكيد الناس اللى راحوا يسألوا عليكم دول مش من عندنا. سأله أخى إذا كان من الوارد أن تتحرك جهة أخرى فى منطقته بدون عِلمِه فأسقط فى يده أكثر واعترف أن نعم، وارد.
من سجنه كان علاء قد كتب:
علينا أن ننتبه: هم لا يقتلوننا ليعيدوا دولتهم؛ هم يقتلوننا لأن القتل والحبس سلوك طبيعى فى دولتهم. نعم سلوك طبيعى، إحنا بس اللى بنضحك على نفسنا. لم تخذلنا فقط شرطة دولتهم، ألم يشاركهم عمداء كلياتها فى دهس أولادنا؟ ألم تخذلنا مستودعات بوتاجازها وأفرانها؟ ألم تخذلنا عباراتها وموانيها؟ ألم تخذلنا عجلة إنتاجها التى لا تبخل على المدير والمستشار بالملايين ــ حتى وهى متوقفة، وتستكثر على العامل والموظف الفتات وهى تدور؟ ألم يخذلنا اقتصادها الذى يغلق مصانع الغزل رغم تكدس القطن فى بيوت الفلاحين، ويشغل مصانع السماد رغم تكدس السموم فى الماء؟ ألم تخذلنا نوادى كرتها التى تترك جمهورها فريسة الأمن لو شجعوا بصخب وتتدخل لإنقاذ لاعبيها من المحاسبة حتى لو رفعوا سلاحا على أعزل؟ خذلتنا وتخذلنا كل مؤسساتها وكل قوى ومسئول قيادى فيها، وغدا سيخذلنا برلمانها ورئيسها.

(١٩ ديسمبر ٢٠١١)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved