لماذا لا نتقدم كثيرًا فى موضوع مكافحة الفساد

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 1 نوفمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

برغم اهتمام الجماهير وحرصها على القضاء على الفساد فى مصر فإننا فى الواقع لم نحقق خلال الأشهر القليلة الماضية تقدما كبيرا فى هذا الموضوع. المحاكمات مستمرة وبعض الأحكام صدرت بالفعل والموضوع لا يزال يأخذ نصيبا وافرا من الاهتمام الإعلامى، ولكن فى نهاية الأمر فلا الأموال عادت ولا المناخ الذى سمح بالفساد تغير. هذا وضع خطير لأنه ينبئ بأن ينتهى الأمر بصدور أحكام على بعض الأشخاص، وحلول وجوه جديدة محل السابقة، وعودة ريما إلى عادتها القديمة، ولكن مرتدية ثياب مختلفة ومتسلحة بالمزيد من الحرص والدهاء. المسألة إذن تحتاج لتوقف وتفكير فيما جعل الفساد ينتشر أصلا وفى كيفية القضاء عليه بشكل سليم.

 

ولنبدأ بأنواع الفساد. فهناك الفساد الكبير وهناك الفساد الأصغر. والتفرقة بينهما ــ وإن كانت تقديرية ولا يوجد لها معيار ــ إلا أنها ضرورية فى نظرة المجتمع لموضوع الفساد وفى ترتيب أولويات القضاء عليه. التفرقة الأخرى المفيدة هى بين الفساد الفردى والفساد المؤسسى. فى النوع الأول يكون المسئول شخصا بعينه يحقق منفعة خاصة أما فى الثانى فيكون الفساد نمطا اعتياديا فى التعامل مع المؤسسة. وأهمية ذلك أنه فى الفساد الفردى تكفى محاسبة المسئول بينما فى الفساد المؤسسى يلزم إجراء تغيير فى قواعد وضوابط التعامل كلها بحيث يتم اجتثاث أصل المشكلة. وأخيرا فهناك تفرقة أساسية بين الفساد المخالف للقانون والفساد فى إطار القانون، وهى فى تقديرى أهم تفرقة وأخطرها. فالفساد المخالف للقانون يمكن ملاحقته ومحاسبة المسئولين عنه لوجود نصوص قانونية محددة تم مخالفتها. أما الفساد فى إطار القانون فهو أخطر الأنواع مطلقا لأنه يعنى أنه ليست ثمة جريمة محددة ولا عقوبة، وبالتالى فلا يمكن محاسبة المسئول عنها لأن القاعدة الدستورية ألا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. وهذا النوع من الفساد غالبا ما يكون نتيجة خلل بالغ وفساد سياسى فى نظام التشريع بالبلد، يجعل من الممكن على أصحاب المصالح أن يمرروا القوانين التى تحقق مصالحهم الخاصة وتسد الباب فى الوقت نفسه أمام الملاحقة الجنائية، وبالتالى نجد أنفسنا أمام تصرفات سليمة قانونا من الناحية الشكلية، ولكنها غير مقبولة لا بالمنطق ولا العدالة ولا الفطنة.

 

فى إطار ما تقدم، دعونا نفكر لماذا لم تحقق مصر حتى الآن تقدما حقيقيا أو اختراقا طويل المدى فى معالجة جذور الفساد، وفى تقديرى أن هناك عدة أسباب لذلك. من جهة أولى، فقد تداخل الفساد الكبير مع الفساد الصغير بسبب فيضان البلاغات والشكاوى التى ضاع فيها الحقيقى مع الكيدى، فاختلط الحابل بالنابل وصار الناس يعتقدون أن كل موظف كان فاسدا وكل صاحب مصلحة راشيا أو مستغلا. ونتيجة ذلك هى أن يفقد الرأى العام ثقته فى إمكان الإصلاح أصلا لأن الاعتقاد بأن البلد كله كان ولا يزال فاسدا يولد الإحباط وفى النهاية يحمى الفساد الكبير لجعله مرتبطا ومستترا ببحر من الفساد الصغير. مكافحة الفساد تقتضى البدء بالفساد الأكبر والتركيز عليه وعدم قبول فكرة أنه جزء من ظاهرة عامة أو أنه سمة أزلية فى المجتمع المصرى لا يمكن القضاء عليها. كذلك فلم يتم الفرقة على النحو الكافى بين الفساد الفردى والمؤسسى، وبالتالى ساد الاعتقاد لدى الرأى العام بأن صدور حكم جنائى على مدير بمؤسسة حكومية هو غاية المراد بينما الواقع أن العيب الأصلى يكمن فى الضوابط والإجراءات والقواعد التى تتبعها المؤسسة بالكامل، وبالتالى يلزم تغييرها لا محاسبة من قام بتطبيقها تطبيقا سليما.

 

من جهة ثانية فإن الجهات التى تولت التحقيق والكشف عن وقائع الفساد بعد الثورة كانت هى المناط بها أصلا ــ قبل الثورة ــ ذات المهمة، وبالتالى صارت تقوم واقعيا بدورين متعارضين: ملاحقة الفساد الذى صار الرأى العام يطالب بالقصاص منه، وفى الوقت نفسه الدفاع الضمنى عن نفسها من عدم قيامها بتلك المهمة فيما سبق. ومسألة أن تكون ذات الجهة أو الشخص محققا ومتهما ضمنيا فى نفس الوقت فيها صعوبة وتناقض، وكان يجب وضع خط فاصل بين الماضى والمستقبل، يمكن تلك الجهات من وضع أسس جديدة للعمل دون الاستمرار فى وضعها موضع الاتهام ومطالبتها بالقضاء على الفساد فى الوقت نفسه.

 

أما موضوع استرداد الأموال المهربة إلى الخارج فقد تم الحديث عنه كما لو كان أمرا بسيطا وسوف ينتج ثمارا سريعة، بينما الحقيقة أن هذه عملية طويلة وإجراءاتها معقدة ونتائجها قد لا تتحقق قريبا، وكان الأجدر أن تتم مصارحة الناس بأن استرداد الأموال موضوع مهم وضرورى ولكنه سوف يتطلب وقتا وصبرا ونتائجه غير معروفة بعد، وأن يتم توضيح أن سلامة إجراءات التحقيق وعدالة المحاكمة هى الشروط الأساسية لقدرتنا على استرداد أية أموال فى المستقبل. أما الاعتقاد بإمكان اختزال المحاكمات أو الإسراع بصدور أحكام من أجل استرداد الأموال المنهوبة فهذا هو عكس الحقيقة بعينها، لأن شرط نجاح جهود استرداد تلك الأموال ــ وفقا للاتفاقات الدولية التى تنظمها ــ هو عدالة وسلامة إجراءات التحقيق والمحاكمة.

 

وأخيرا فإننا فى مصر قد انشغلنا بالملفات الإعلامية الساخنة التى تتعلق بموضوعات محددة بعينها وبأشخاص اشتهروا بفسادهم فى ظل النظام السابق، ولكن نكاد لم نتطرق مطلقا إلى قضية الوقاية من الفساد فى المستقبل. الوقاية من الفساد لا تقل أهمية عن معالجته بل تزيد. وضع ضوابط عدم تعارض المسئولين بالحكومة والقطاع العام ضرورى لوقف استغلال المنصب العام والتربح من الوظيفة. وتعديل نظام تخصيص أراضى الدولة هو الوسيلة الوحيدة لمنع التعدى عليها مستقبلا. ومراجعة قانون المناقصات والمزايدات أصبحت واجبا فى ضوء ما تكشف عنه من مشاكل وثغرات. وتعديل القوانين التى جعلت الفساد ممكنا ومشروعا ومحميا هو الأولوية التى يجب أن تحظى بالاهتمام الإعلامى والشعبى والرسمى لأنها الوسيلة الوحيدة للقضاء على الفساد القانونى الذى هو أخطر وأسوأ أنواع الفساد مطلقا.

 

الوقاية من الفساد هى الطريق الوحيد لعدم تكرار مأساة الماضى. وبغير ذلك فإننا نكون قد اكتفينا بالساخن من المواضيع والمثير من الأخبار ولم نفعل شيئا حيال الفساد الذى سيأتى مرة أخرى، وكأن المطلوب من الأصل هو أن يتقاعد جيل من الفاسدين لكى يتمكن جيل جديد من الحلول محله والنزول إلى المعلب الذى صار خاليا ومفتوحا للاعبين ومغامرين جدد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved