أخلاقيات اللعب عند الكلاب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 1 ديسمبر 2009 - 9:28 ص بتوقيت القاهرة

تعلمنا فى مدارسنا وبيوتنا أن الوازع الأخلاقى مقدرة لا تتوافر إلا عند الكائنات البشرية. لم نعرف إلا لاحقا أن هذه المقدرة ليست بالضرورة مرتبطة بالبشر، بعد أن رأينا وعاشرنا وتعاملنا مع بشر لا يمتلكون هذه المقدرة. ثم فاجأتنا أحدث الدراسات العلمية، وفاجأت الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا خاصة، حين أثبتت بالبحث العلمى أن لبعض فصائل الحيوان قدرة على صنع منظومة أخلاق خاصة بها وقدرة على التزامها والتمسك بها.

كنا نعرف أن للحيوانات، أو لبعض أنواعها على الأقل، حياة اجتماعية خاصة بها، وأن الحيوانات تتعاون فيما بينها ويعطف بعضها على البعض الآخر ويواسيه إن ألمت به مصيبة أو أذى..

وعرفنا أن مسيرة تطور المخلوقات خصصت للتعاون والتعاطف بالقدر نفسه من الطبائع الذى خصصته للتنافس والخشونة والوحشية. بل إن أحد كبار الباحثين وهو عالم الأنثروبولوجيا بجامعة واشنطن «سانت لويس» روبرت ساسمان Sussman Robert وزميليه بول جاربر وجيم شيفيرود نشروا فى عام 2005 نتيجة بحث قاموا به وجاء فيها أنهم وجدوا أن 90٪ من التفاعلات الاجتماعية بين فصائل متنوعة من الحيوانات كانت من نوع التفاعلات الحميمة والهادفة إلى دعم الانتماء والالتحاق، وليست كما ساد فى التصور العام تنافسية أو تفريقية.

جاء أيضا أنهم توصلوا إلى أن فصائل كثيرة تميز بين ما هو صحيح أخلاقيا وما هو خطأ، وأن أنواعا منها تراعى «مبادئ» العدل والمساواة وتمارس المغفرة والثقة المتبادلة وإنكار الذات والتسامح والحرص على كرامة الحيوان الفرد والجماعة وبعضها يحترم قيمة المعاملة بالمثل.

أما الحديث جدا فيما اكتشفناه بأنفسنا خلال الأسابيع الأخيرة فهو أن البشر، أو بعضهم على الأقل، كثيرا ما يقصرون فى التزامهم احترام قواعد الأخلاق عندما يمارسون لعبة من ألعابهم أو عندما يشجعون فريقا منهم ينازل فريقا من قبيلة أخرى أو من فصيل آخر. فى الوقت نفسه، أو ربما قبله بقليل، كان آخرون فى الولايات المتحدة يكتشفون أن نوعا معينا من الحيوانات، وهو من عائلة الكلاب كالذئاب الرمادية والذئاب المتوحشة والكلاب الأليفة، يلتزم قواعد أخلاقية معينة عندما يقرر أفراده ممارسة لعبة من الألعاب.

ففى كتابهما الصادر بعنوان «العدالة الوحشية: الحياة الأخلاقية للحيوانات» لاحظت Pierce Jessica وزميلها Becoff Marc أن الحيوانات تلعب لتتسلى وتقضى الوقت ولكن أيضا لأنها تعتبر اللعب مهمة «تربوية» جادة.

هى تلعب وفى الوقت نفسه تتعلم ممارسة علاقات «نظيفة» عن طريق التدريب على الالتزام بقواعد «اللعب النظيف». لاحظا أيضا أن الحيوانات وهى تلعب يراقب بعضها بعضا لتتقن أصول اللعب وأخلاقياته وتنبه المخطئ إلى الخطأ.

يذكر المؤلفان أنهما اكتشفا من خلال التجارب الكثيرة التى أجرياها على حيوانات تلعب كفريق أن هناك ما يشبه التوجيهات أو النصائح المهداة إلى كل «فرد» يريد أن يشارك فى اللعب أو لعلها مفروضة عليه، وهى «اسأل أولا وراقب جيدا، وكن أمينا، والتزم القواعد، واعترف بالخطأ إن أخطأت».

وكان اكتشافا مثيرا أدخل سعادة هائلة إلى قلوب كل من شارك فى البحوث التى خطط لها الباحثان جيسيكا ومارك حين اتضح لهما أن اللعب بين فريقين من الحيوانات يتوقف عندما تسود الخشونة وتتعدد الألعاب غير النظيفة.

من ناحية أخرى عمد المؤلفان إلى توثيق نتائج بحوثهما فاحتفظا بأفلام تصور صغار اللاعبين من الكائنات الحيوانية، أو الناشئين حسب التعبير المستخدم بين الكائنات البشرية، وهم يتفاوضون فيما بينهم بعناية على قواعد اللعب مستخدمين إشارات تضمن عدم الانحراف باللعب إلى التقاتل والشجار.

من هذه الإشارات مثلا حك الأجساد والركوب فوق بعضها البعض بهدف توضيح النوايا البريئة حتى لا يساء تفسيرها إذا مورست خلال اللعبة.
كان مثيرا للغاية ما قرأته عن «الانحناءة».

لم أكن أعرف أن حيوانات بعينها، ومنها الذئاب والكلاب، إذا أراد صغير فيها أن يلعب مع صغار من عمره أو مع الكبار فإنه يأتى إليهم وهم يلعبون وينحنى أمامهم. وللانحناءة أصول ومراسم. فهو يزحف على بطنه بطيئا.. بطيئا فى اتجاه من يريد أن يلعب معه، وقد ينبح أمامه أو يهز ذيله بعنف، ثم يركز عينيه عليه بنظرة ثاقبة حتى يؤذن له باللعب.

ويستخدم اللاعبون أحيانا هذه الانحناءة أثناء اللعب كإشارة صدق وأمانة وعلامة ثقة وأحيانا كاعتذار عن عضة كانت قاسية عن غير قصد. وفى أحيان أخرى يحلو للحيوان أن ينام على ظهره أثناء اللعب تأكيدا للاعبين جميعا على مدى اطمئنانه لهم وثقته فيهم.

وتقول الأستاذة جيسيكا إن الحيوان لا يفعل ذلك عادة خارج «ساحة اللعب» لأنها تجعله عرضة للاعتداء بينما يستطيع فى الملعب أن ينام على ظهره بعد أن عرف أن الملعب ساحة سلام وثقة متبادلة، كما ظهر من التجارب الميدانية المكثفة أن الحيوان الذى يخون الأمانة أثناء اللعب ويتصرف بخشونة متعمدة أو بنوايا عدوانية ومؤذية، عادة ما يجد نفسه منبوذا من قبل الجماعة بأسرها، مهما حاول الانحناء طلبا للمغفرة.

ظهر أيضا أن المنبوذين سرعان ما يرحلون بعيدا عن القطيع أو يهاجرون إلى أقاليم أخرى. لوحظ أيضا، وبأسلوب علمى مدقق، أن المنبوذين يموتون مبكرا.

أفهم أن الحيوانات إذا اختارت أن تذهب إلى الملعب فقد ذهبت لتلعب وليس ليأكل بعضها بعضا أو ليقاتله أو ليتحرش به جنسيا. تذهب لتلعب وهى تدرك تماما ومقدما أنها إذا خرقت قواعد اللعب النظيف تعرضت للعقاب. هذه الحيوانات لا يحكم تصرفاتها وسلوكياتها قبل اللعب وأثناءه وبعده ضمير. فالضمير رادع بشرى لا يتوافر فى عالم الحيوان.

مع ذلك يقول أنطونيو داماسيو فى كتابه «خطأ ديكارت» ويتفق معه دانيال واجنر فى كتابه «وهم الإرادة الواعية»، أن الغالبية العظمى من السلوكيات الأخلاقية للبشر يمارسها الإنسان بعيدا عن رادار الضمير، تماما كما يفعل الكثيرون من سائقى السيارات الذين يخططون لإبطال مفعول أجهزة الرادار المثبتة على الطرق السريعة أو للتحايل عليها، وكما فعل الغوغاء من البشر والمهيجون لهم حين تجاهلوا ضمائرهم أو تحايلوا عليها بالكذب والتهييج والوطنية الزائفة وتنكروا للأخلاق وأساءوا إلى لاعبين مصريين وجزائريين شهد الجميع لهم بالتزام قواعد اللعب النظيف.

مطمئن أنا إلى أنه مع تقدم البحث العلمى نحو فهم أفضل لأخلاقيات الحيوانات سيأتى يوم نجيد فيه الاستمتاع باللعب النظيف مستفيدين من أخطائنا ومستعينين بضمائرنا ومستعيرين من كائنات أخرى أفضل سلوكياتها.






هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved