النملة والزبد ورجال الأعمال

سلمى حسين
سلمى حسين

آخر تحديث: السبت 1 ديسمبر 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

قصر فخم تحيطه حديقة غناء. وفى طرف الحديقة شجرة وارفة فاكهتها تغطى الفروع المديدة. الحديقة يحيطها سور عال يمنع من تسول له نفسه الدخول. بينما امتدت يد لتخرج أحد الفروع المثقلة بالثمرات إلى خارج السور. هكذا ظهر غلاف مجلة الإيكونوميست المعبرة عن مصالح الرأسمالية العالمية منذ أكثر من شهر، وعلى الغلاف دعوة لتوزيع عادل لثمار النمو قبل أن تقوم ثورة عالمية تقذف بالعالم إلى اليسار.

 

فى قلب التوزيع العادل تقع قضية الأجور. وبالأخص، الحد الأدنى للأجر، أو أجر الكفاية. فلماذا يرفض رجال أعمالنا أن يدفعوا أجرا كريما لموظفيهم؟ الموقف وراءه حكايات. ها هى من البداية.

 

 

 

الرئيس يثبت دعائم حكمه

 

جلس مبارك رئيسا فى أواخر 1980. وفى 1981 أصدر تباعا قانونين لرفع الحد الأدنى للأجر فى القطاعين العام والخاص، وثالثا فى 1984. كان الأخير جيدا اجمالا. لأنه التزم بكل الأعراف المحمودة دوليا فى تحديد الحد الأدنى للأجر، والذى بلغ 35 جنيها. فقد كان يعادل آنذاك 60% من متوسط الأجر. كما شمل معظم العاملين بأجر فى بر مصر. هكذا عمل الرئيس على تثبيت دعائمه. ودارت الأيام، فصار هذا المبلغ مضحكا أو بالأحرى مبكيا. ثم سقط مبارك.

 

وقرب النهاية، زادت الضغوط المجتمعية تطالب بأجر كفاية جديد. لكن هى بداية قرن جديد، والزمان غير الزمان.

 

فبعد أن دارت عجلة سياسات الخصخصة وتشجيع رجال الأعمال، طرأ متغيران أساسيان: بعد 30 عاما من الدعم والتسهيلات أصبح نصيب القطاع الخاص طبقة من الكبار أقرب إلى السلطة، فى حين لا ينتج إلا 20% من السلع والخدمات المنتجة سنويا فى مصر. ثانيا: نتيجة لقلة فرص العمل اتجه الكثيرون لفتح محال صغيرة غير مرخصة فيما يعرف بالقطاع غير الرسمى، والذى يضم أيضا الورش والمصانع الصغيرة.

 

صار القطاع غير الرسمى هو المنتج الأول فى مصر ويوظف نصف الأيدى العاملة (الحكومة توظف الربع). إذن معظم العاملين بأجر يعملون فى القطاع الخاص بشقيه الرسمى وغير الرسمى. وامتنعت الدولة عن تنظيم العلاقة بين العامل وأصحاب الأعمال. ونتيجة ذلك، لاحظ البنك الدولى أن نصف العاملين بأجر فى مصر صاروا فقراء. كان هذا هو الوضع حين جاءت حكومة نظيف. وبخار الغضب يتسرب خارج القدر.

 

 

 

الأيام الأخيرة للتوريث

 

استشارت حكومة رجال أعمال فى الأمر رجال الأعمال. وظهرت وقتها وثيقة من أحد المراكز الممولة من كبار رجال الأعمال، لتفيد بأن 35 جنيها فى بداية الثمانينيات أصبحت قيمتها تعادل 214 فى 2006. رفض رجال الأعمال الالتزام بهذا المبلغ الضئيل وضغطوا على الحكومة حتى لا يتم الأخذ بهذا التصحيح. وقد كان. تجاهلت الحكومة الوثيقة، وروجت لأفكار مناهضة لأجر الكفاية. فصار أصحاب الأرباح يستحوذون على أكثر من ثلثى الدخل القومى فى حين تآكل نصيب الملايين من أصحاب الأجور إلى أقل من الثلث. وانتشرت مقولة لتكبر الكعكة أولا ثم نعيد توزيعها لاحقا. بزعم أن التوزيع العادل الآن هو توزيع للفقر على الجميع.

 

فى 2007، بدأت سنوات عجاف، فأخذت أسعار الغذاء والطاقة العالمية فى الارتفاع ليتضاعف عدد الفقراء بمصر وليشهد 2008 أول ضحايا الدعم. مات المصريون فى طوابير الخبز والبوتاجاز. وزاد الغليان.

 

وفى 2010، وتهدئة للمجتمع تمهيدا للتوريث، أعلن نظيف عن إقرار حد أدنى للأجر يقدر بـ400 جنيه شهريا. ولكنه كان ذرا للرماد فى العيون، فلم يصدر بقانون ولا محصنا بآليات إنفاذ ومتابعة أو عقاب. وكان المبلغ يقل بمقدار الثلث عن كل التقديرات حتى داخل الحزب الوطنى. دافع نظيف عن المبلغ الهزيل بأنه يخشى إن رفعه أن تزداد البطالة وينتشر الكساد. ولم تمر أشهر قليلة إلا وسقطت تلك المقولة محليا بسقوط مبارك، كما تبين سقوطها عالميا مع الأزمة الاقتصادية. ولما جلس المجلس العسكرى على حكم البلاد كان عليه أن يواجه أول وأهم استحقاقات الثورة: تعديل هيكل الأجور الظالم. فماذا كان بفاعل؟

 

 

 

الغنى لا يضام

 

أدار العسكر ظهورهم للخبرات العالمية، مستقبلين رجال الأعمال المصريين وطمأنوهم ألا يضاموا فى عهدهم. وللمرة الثانية، ذرا للرماد فى العيون (وكم من رماد أعمانا، هرمنا!) ففى 2011، أصدر المجلس قانونا بحد أدنى للأجر 683 جنيها ليسرى على الحكومة فقط. أى يشمل أقل من مائتى ألف من المعينين وقتها (فقط 2% من الأيدى العاملة فى مصر). ولا عزاء لباقى العمال والموظفين الفقراء فى القطاع الخاص، بل وفى هيئة مثل النقل العام حيث يحصل السائق بعد عشرة أعوام أقل من خمسمائة جنيه.

 

لكى تنكسر هذه الحلقة المفرغة، على صانع القرار أن يخلع نظارة رجال الأعمال وينظر للموضوع بنظارة أخرى. ولكن يبدو أن الفترة الانتقالية تعنى انتقال نفس النظارة من حاكم إلى آخر.

 

يقول المثل لا تنتظر الزبد من حليب النملة. وأقول، لا تنتظر العدالة الاجتماعية من أصحاب الأعمال. فهذا دور الدولة. لهذا يجب ألا تقترب أى حكومة كثيرا من رجال الأعمال. وهناك نظريات اقتصادية تفيد بأن هذا الابتعاد هو فى مصلحة مجموع رجال الأعمال على المدى الأبعد، ولكنهم عادة ما تكون نظرتهم لمصلحتهم آنية وضيقة. وإذا كانت الإيكونوميست دعت لتوزيع الدخول تفاديا لثورة يسار عالمية، فعندى سبب آخر، وحكاية.

 

 

 

الشعب يريد

 

ياسر يعمل فى مؤسسة حكومية. كان راتبه قبل الثورة وبعد خمس سنوات من حصوله على البكالوريوس تحت 600 جنيه. يعمل عشر ساعات يوميا، ستة أيام فى الأسبوع. بعد الثورة كان من المستفيدين من الحد الأدنى للأجر، ولكن ما أفاده حقا هو الاعتصامات التى قام بها وزملاؤه فى العمل ضد فساد الإدارة. وبعد التخلص من اثنين من الرؤساء الفسدة تباعا، أصبح راتبه ثلاثة أضعاف ما كان، لأن جزءا من المكافآت التى كانت توزع على الحبايب أصبح يوزع بشكل عادل على الجميع. القصة تحمل الكثير من الحكم. ولكن ما يعنينى هو ما فعله ياسر بفضل زيادة راتبه.

 

فقد قرر أن يكمل نصف دينه، فاستأجر شقة واشترى الأثاث والأجهزة وغيرها من اللوازم وزاد إنفاقه على منزل أسرته. بذلك الدخل الإضافى أنفق ياسر ما يزيد عن دخله ليفيد دائرة واسعة من المنتجين، وهذا بالضبط هو ما يحدث عندما تزداد أجور أصحاب الأجور الضعيفة. ساعتها بدلا من ياسر واحد سيكون هناك عشرة ملايين ياسر، فيزداد الطلب على السلع والخدمات وتدور عجلة الاقتصاد، مولدة مصانع ومحال والعمل الكريم.

 

عالميا، عاد الاهتمام بأجر الكفاية بفضل دول ناشئة كالبرازيل وجنوب أفريقيا والهند والصين. وعندما عصفت الأزمة العالمية بكبرى الدول الرأسمالية زلزلها الشك فى المقولات الاقتصادية الكلاسيكية مثل أن الأسواق كفيلة بإصلاح نفسها.

 

من تلك المقولات الراسخة أن الحد الأدنى للأجر يعطل آليات السوق، فتزيد البطالة ويطول الكساد. لذا يجب السماح للأجر بأن ينخفض أثناء الأزمات بفعل السوق، حفزا للاستثمار والتوظيف. هراء.. هكذا صاحت أعتى الدول الرأسمالية لأول مرة فى تاريخ الأزمات (مستفيدة من أخطائها السابقة، مثل أمريكا فى العشرينيات واليابان فى التسعينيات). فما كان من أمريكا وألمانيا وفرنسا وغيرها أكثر من 90 دولة إلا أن رفعت قيمة أجر الكفاية. وكانت النتيجة أن ارتفع النمو وزاد التوظيف. هذا ما نادى به منذ مائة عام الاقتصادى الرأسمالى كينز ولكن أصحاب النظارات السوداء لا يحبونه.

 

 

 

الشريك المخالف

 

تؤكد منظمة العمل العالمية عبر ترسانة من الدراسات أن أجر الكفاية يقضم الفقر ويزيد العدالة وينشط الاقتصاد. ولتتحقق تلك الفوائد، تضع شروطا لإقراره. أولها أن يتم التفاوض عليه بين ممثلى نقابات عمالية حرة وممثلى أصحاب الأعمال، كل الأعمال. وترعى الدولة تلك المفاوضات حتى لا تكون بين طرف ضعيف معرض للفصل لأنه طالب بحقوقه وشريك قوى فى التفاوض مخالف له فى المصالح. وتمدهما بالبيانات والدراسات ليكون التفاوض بين طرفين متكافئين. وهكذا يكون أجر الكفاية نتيجة رضا الطرفين وموافقتهما. ويكفل القانون ــ بحسب المنظمة الدولية ــ أن ويلاً بعدها للمخالفين.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved