(القاهرة: مدينتى وثورتنا) .. الأربعاء 2 فبراير 2011

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 2 فبراير 2012 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

رعشة وارتفاع فى درجة الحرارة. احتقان فى الزور ــ بل فى كل الممرات بين الزور والأنف والأذن. مجموعات من تلك العطسات المتتالية التى لا تترك لك ثانية تتنفس فيها. تسع عطسات متتالية تتركنى هامدة على مقعد فى الصالة، ممتنة لمن ينصحنى بالبقاء فى البيت والـ«عمل على الإعلام» وعدم النزول إلى الميدان.

 

فى اللحظة التى استيقظت فيها أحسست ان ثمة شيئا غلط، سمعت أبواق السيارات. فى الأيام الماضية ساد فى حيِّنا جو من السلام والهدوء، أما اليوم فلم يكن حتى صوت زحام السيارات فى الأيام العادية، كانت أبواق عالية نمطية متكررة متعدية.

 

من نافذتى أرى مجموعات من الناس تتحرك على كوبرى ١٥ مايو وأدرك ــ حتى من قبل ان أرى اللافتات ــ  ان هؤلاء هم «الآخرين»، أتباع مبارك. يخطر ببالى انهم، أيضا، لهم الحق فى التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأى، ثم يخطر ببالى انهم لا يعَبِّرون حقيقة عن رأيهم، فهم مُسَيَّرون: كل مجموعة من ١٥ أو ٢٠ شاب (كلهم ذكور) تصحبها سيارة صاخبة. وحتى من هذا البعد أرى أنهم يفتقدون إلى اللطف، لا يعطوننى ذلك الإحساس بالألفة الذى اعتدناه الآن فى المظاهرات، هم يحملون العصى والشوم، يشيرون إلى الشارع بإشارات جارحة، لهم قادة واضحون ينظمونهم ويوجهونهم، اللافتات التى يحملونها هى اللافتات النمطية الراكدة التى اعتدنا رؤيتها فى أيام الانتخابات.

 

لماذا أفاجأ؟ لأننا بحاجة إلى الاعتقاد أن كل من فى البلد ــ بلا استثناء ــ  يريد التخلص من النظام؟ لماذا أشعر بالإحباط؟ لأننى ظننت ان النظام اختفى إلى الأبد بعد يوم ٢٨ والآن يبدو انه سيعود ويقاتلنا ــ يقاتلنا فى الشوارع التى هى الآن من حق الثورة؟ لأنى عندى برد؟

 

عندى برد. طبقات من البلوفرات، وجوارب من الصوف وقربة ماء ساخن أحتضنها. علب من المناديل الورقية. لكنى لا أرتاح للرقاد، فعلينا كلنا أن نعمل، بلا توقف، أن نكون مفيدين، أن نَنْفع الثورة كل بطريقته. الرواية التى كنت أعمل عليها (وفى أغلب الوقت لا أعمل عليها) فى السنوات الماضية، انكمشت على نفسها وصارت كتلة صغيرة باردة فى ركن من ذهنى: هل ماتت روايتى؟ تلك الشخصيات الحيَّة، تذهب وتجىء، تتناقش فى أحوال مصر، فى أحوال العالم، تفعل، تشعر، تحب ــ هل انتهوا جميعا؟ لو سمحت لنفسى بالتفكير فيهم سيعترينى إحساس هائل بالذنب، ألوم نفسى أننى لم أنته منها منذ سنتين، أو سنة، نصف سنة حتى، حين كنت أستطيع، كان سيتاح لها أن تكون جزءا صغيرا مما يحدث الآن، جزءا من هذا الفوران الغنى من الأفكار والنقاشات. ولكن لا، لا: أجَّلت، تكاسلت، قمت بمليون عمل آخر وقت كنت أستطيع ــ  وقت كان يجب علىّ ــ  أن أكتب، والآن روايتى المسكينة، التى كانت تغفر إهمالى وتعود تنقر على بابى بكل رقة، فات وقتها. مبتسرة هى الآن، غير ذات قيمة، وأنا علىّ أن أنساها. سوف أعمل على احتفالية فلسطين للأدب، بالفِسْت، مولودتى الأخرى التى شغلتنى عن الرواية فى الخمس سنين الماضية. بعد عشرة أسابيع علينا أن نقيمها فى مدن فلسطين المحتلة، ولم ننجح بعد فى جمع كل ما تحتاجه من مال. إذا ــ  أسعل وأكتب إلى أحد الأصدقاء المموِلين. ثم أسعل وأكتب لآخر. وأسعل ــ  يهاتفنى عمر من التحرير ليقول إن هناك شيئا مغايرا اليوم، نقاط التفتيش لا يقف عليها شباب اللجان الشعبية، الجيش يقف على المداخل ولا يفتش الداخلين، لا ينظر فى حقائبهم ولا يطلب بطاقاتهم الشخصية.

 

طرف عينى على قناة الجزيرة وأنا أكتب خطابات التذكير والحث وفجأة أدرك أن ما أراه على شاشة التليفزيون فى ركن غرفتى هو جمل وخيول تركض فى التحرير ــ  أى والله: جمل ذو سرج ملون زاهى تتدلى منه الشراشيب، جمل من جمال منطقة الهرم مُزَيَّن ليجتذب السواح ويعمل منظرا فى صورهم الفوتوغرافية. الجمل يجرى والخيل تجرى والناس تجرى إليها ومنها وبدون أن أرفع عينى من على الشاشة أمد يدى إلى المحمول وأطلب عمر ولا أصل له فأطلب ليلى، أختى، التى عادت إلى الميدان من المطار حيث كانت تستقبل علاء، ابنها (المسمى على اسم أخى)، ومنال زوجته، وقد عادا من جنوب إفريقيا ليشاركا فى الثورة. ليلى سعيدة، يصخب الهاتف بضحكتها الكبيرة المألوفة، تلك الضحكة التى لا تنتهى حين تبدأ صاحبتها فى الحديث بل تظل تجرى خلال الكلمات فتضطرك أحيانا أن تطلب أن تعيد ما قالته. هذه المرة فرحتها والدوشة حولها تدفعان أختى لرفع صوتها فأسمعها واضحة: «مفيش حاجة مفيش حاجة! هاجمونا بالحِصِنَة والجمال بس مسكناهم ودلوقتى العيال راكبة عليهم وبِتلِفّ الميدان وكل حاجة تمام وعلاء ومنال معايا».

 

أبتلع حبات البنادول واستحلب بستلية بالكورتيزون وأحاول أن أكتب، أن أصف اليوم. القنوات الرسمية تكذب وتزيف إلى درجة تعدت المخجلة من زمن، بالفعل لا أقوى على تَحَمُّل مشاهدتها. تبث السموم وتبث الشر. كان علينا أن نحتل ماسبيرو يوم ٢٩، تراودنى هذه الفكرة للمرة المائة. أتابع الأخبار على القنوات الفضائية وعلى تويتر. الناس ــ  الناس الذين كنت معهم فى التحرير بالأمس، نهتف ونغنى ونناقش الأشكال المختلفة للإدارة والحكم ــ ابن أختى وبناتها وبنات أخى وابنى وأصدقاؤهم وكل الشباب وكل الناس الذين جاءوا إلى الميدان لأنهم يتوقون إلى حياة أفضل لبلادهم ــ سوف يضعون أجسادهم فى محل المواجهة ــ  مرة جديدة. أجسادهم هى ما لديهم من عتاد. بلطجية مبارك ورجاله لهم الشوم والعصى والحجارة والصنج والسلاسل والكلاب والعربات. والجيش يقف إلى جانب ولا يرفع يده. على التليفزيون أسمع آلاف الأصوات ترتفع فى هتاف غاضب: «واحد! اتنين! الجيش المصرى فين؟» أهاتف عمر فيقول ان البلطجية يهاجمون التحرير وان هناك معارك على ثلاثة مداخل للميدان وان الشباب كَوَّنوا خطوط دفاع. يقول إنهم يرون العربات تمر وراء المهاجمين بالدعم والإمدادات.

 

هناك جانب مفيد لكل هذا: سوف يقتلع أى تعاطف مع مبارك بدأ ينبت بعد العرض المخزى الذى قدمه لنا مساء أمس. مرة جديدة يستعرض النظام بلادته، لا يقدر على أن يبتكر تصرفا محترما أو مجدِّدا فيلجأ إلى خليطه المعتاد من كذب وتزييف وتهديد مضمن وعنف. مساء أمس مثَّل أمامنا ميلودراما مُبْكية، ثم لم ينتظر أن تؤتى بثمارها بل عاد فى ساعات إلى العنف الغبى. هى طبيعته وهى حدوده.

 

تهاجم ميليشيات البلطجية التحرير من كوبرى قصر النيل فى الغرب ومن أربعة شوارع فى الجانب الشرقى ومن المدخل الرئيسى، الشمالى، الذى يمر بجانب المتحف المصرى. يبادر الشباب إلى تأمين مدخل الميدان من شارع التحرير ليحموا المستشفى الميدانى الصغير فى مسجد عباد الرحمن. ويبادر الجيش إلى سد شارع قصر العينى ليؤمن الوزارات ومبنى مجلس الوزراء وفيما عدا ذلك لا يفعل شيئا.

 

على مدار اليوم يهاجم البلطجية مداخل الميدان فيصدهم الشباب. يصبح ميدان طلعت حرب مقر إدارة العمليات للبلطجية، وتصبح منطقة وسط البلد مسرحا للمعارك المستمرة حيث يتراجع البلطجية من مداخل الميدان يستجمعون أنفسهم ليقوموا بهجمة جديدة. لساعات طوال تشتعل المعارك الشرسة على حدود الميدان، وبداخل الميدان تستمر الحياة. «معركة الجمل». هى الأساليب نفسها التى استعملوها ضدنا ــ ضد كل محتج ومتظاهر ــ  طوال السنوات الخمس الماضية، الأساليب نفسها التى استعملوها فى الانتخابات ليرهبوا الناخبين من النزول إلى الشوارع والمشاركة، عادت إلى الظهور وبوحشية مضاعفة. هذا هو النظام الذى يَعِد بأن يستمع إلى الشعب ويستعمل الشهور القادمة ليبدأ فى الإصلاح!

 

ستكون الحركة القادمة أن يقولوا إن شباب التحرير هم عناصر خارجية، أو تندَسّ بينهم عناصر خارجية، وأنهم على علاقة بشبكات الإرهاب وأنهم زاروا أفغانستان وأنهم يريدون العبث باستقرار مصر. لكن اليوم العالم كله يعرف ان هذا النظام كذاب بطبيعته، الكذب عنده كالتنفس.

 

يهاتفنى عمر ولا أكاد أتبين صوته من الضجيج. يقول بملل: «ممكن تكلمى الظابط ده اللى بيحاول يقبض عليا وتقوليله إنى مصرى وإنى ابنك؟»

 

أقول: «أيوة طبعا. آلو!»

 

أسمع صوت رجل يقول: «أنا مش هاكَلِّم حد! أنا عايزك تيجى معايا ــ »

 

«انت قلت ممكن تكلم حد من أهلى »

 

«أنا مش هاكلم حد. أنا باشُكّ فيك »

 

«آلو! آلو!»

 

«احنا بنتناقش بقالنا نص ساعة وانت فى الآخر قلت »

 

«أنا ظابط فى الجيش وباشُكّ فيك »

 

«آلو! كلمنى!»

 

«كلم أمى »

 

«باشُكّ فيك »

 

«كلمنى! كلمنى أنا»

 

«أوكى يا ماما خلاص» يقول ابنى فى التليفون ويقفل السكة. أظل أطلبه وأطلبه ولا أصل إليه.

 

أصل إليه بعد ساعة. الضجيج فى الخلفية فظيع. أصيح: «حصل إيه؟»

 

«فى إيه؟»

 

«فى الجيش»

 

«آه. ولا حاجة. اتخلصت منه. الناس ساعدتنى.»

 

السابعة مساء

 

تتصل بى السيدة القائمة على أعمال نشرة أخبار القناة الرابعة فى التليفزيون البريطانى لتقول إنهم لن يستطيعوا ان يرسلوا سيارة لتأخذنى إلى الاستوديو لأنهم لا يستطيعون تحمل مسئولية سلامتى. الاستوديو الذى يستخدمونه يقع بين فندق رمسيس ومبنى الإذاعة والتليفزيون، ومدخله فى الشارع الصغير الموازى لكورنيش ماسبيرو. فى يوم عادى تستغرق التمشية من بيتى إليه عشرين دقيقة.

 

التاسعة مساء

 

هل يبدو الأمر غريبا لعمال الجراج؟ أطلَع عليهم من الظلام فيضطرون إلى تحريك السيارات ليفتحوا طريقا لى لأركب السيارة وأخرج. كل يوم آتيهم بسيارة شكل، فأنا ليست عندى سيارة وأستعير المتاح من الأسرة. الليلة معى سيارة خالتى. أعتذر. مدخل الجراج لا باب له ــ لم يكن بحاجة لباب أبدا. هذه الأيام يسدونه بسيارة دفع رباعى سوداء ضخمة، وعليهم الآن أن يحركوها لكى أطلع. وسوف يضطرون إلى تحريكها مرة أخرى حين أعود. تَعَبتُهم. أقول: «شغل ــ » وأشير إشارة تعنى أن الأمر ليس بيدى، أى لست امرأة مجنونة تتعبكم فى تحريك السيارات لتخرج فى الليل وسط الظلام وحظر التجول لرغبة فى مزاجها.

 

أمُرُّ خلال حاجزين للجان شعبية. يعتذرون لى: «آسفين جدا على إزعاج حضرتك». أشكرهم: «بالعكس. ده أنا متشكرة جدا على اللى انتم بتعملوه». يا لأدبنا. يا للطفنا. كم أحبنا وأحب الشوارع وأحب الثورة. أتجه إلى كوبرى ١٥ مايو. ينقر رجل مار على شباك السيارة. أفتحها فيقول: «فيه ضرب فى وسط البلد. بلاش ترُوحى».

 

«مضطرة. عندى شغل».

 

هو غير مرتاح. زميلى فى المواطنة، فى الإنسانية، قلق علىّ. يقول: «طيب، خللى بالك».

 

العاشرة مساء

 

هى إحدى المعارك المحورية فى الثورة.

 

بلطجية النظام تراجعوا من قصر النيل والمداخل الشرقية والآن يركزون هجومهم على المدخل الشمالى للتحرير: الطريق الواسع الذى يخرج من ميدان عبدالمنعم رياض تحفه فى الشرق مدرسة الفرنسيسكان وبعض المبانى السكنية وفى الغرب المتحف المصرى. يمر فوق هذا الطريق جزء من كوبرى ٦ اكتوبر.

 

قبض الشباب على بعض البلطجية وحين تفقدوا بطاقاتهم اكتشفوا أنهم جنود فى الأمن المركزى. حين يقبض الثوار على مهاجم يصورون بطاقته ثم يسلمونه للجيش.

 

تمكن الشباب من هزيمة بلطجية النظام فى الشارع، لكنهم اتخذوا مراكزهم على الكوبرى، كما أنهم وضعوا رجالهم على سطح أحد المبانى السكنية المجاورة للمدرسة. الشباب يرون هؤلاء الرجال، لكنهم لا يرون القناصة المتمركزين على أسطح المتحف المصرى وفندق الهيلتون. من حين لآخر يلمحون أشعة ليزر خضراء تلتمع بين صفوفهم فيشُكُّون أن هذا يشى بوجود القناص.

 

من كوبرى ٦ اكتوبر ومن الأسطح يقذف النظام الحاكم المواطنين بالطوب والحجر وكسر السيراميك والرخام والزجاجات والمولوتوف. تطير كرات النار وتتساقط وسط الناس على الأرض. يتمكن الشباب من الوصول إلى سطح البناية المجاورة فيجرى تبادل الحجارة والمولوتوف من سطح إلى سطح، لكن النظام يتميز بوجوده على البناية الأعلى، أما على الكوبرى فيتميز بأن لديه سيارات الإسعاف وعربات الأمن المركزى والميكروباصات المدنية تأتيه بالإمدادات من رجال وذخيرة.

 

المعركة تدار حول تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض، أركان حرب الجيش المصرى أثناء حرب الاستنزاف مع اسرائيل. الشهيد عبدالمنعم رياض قتله الاسرائيليون بقذيفة وهو وسط رجاله فى الخندق رقم ٦ على شاطئ قناة السويس فى ٩ مارس ١٩٦٩. اشتهر بقوله إن مكان القائد مع رجاله. عيناه الآن مسلطتان على مواطنى مصر يدافعون عن قلب عاصمتهم.

 

اصطف المواطنون فى تشكيل قتالى: يشكل كبار السن خطوط الإمدادات، ينزعون صفائح السور المعدنى من منطقة العمل الغامضة المجاورة لهم، ويخلعون الحجارة من الأرصفة. يعبئ الشباب الحجارة فى البطانيات ويجرون بها إلى الجبهة. شباب الصف الأمامى يقذفون الحجارة ويرفعون حائطا واقيا من صفائح السور المعدنى. الحائط يحجب رؤيتهم فيقذفون بالطوب مهتدين بإشارات مايسترو يقف إلى الوراء قليلا، مرتفعا، ممتطيا هيكل مدرعة محروقة. وراء الخط الأول ببضع أمتار يقف خط ثانى. هؤلاء هم الاحتياطى. حين يسقط شاب أمامى يأخذ الاحتياطى مكانه. ووراء الاحتياطى ببضعة أمتار يقف ثلاثة صفوف من الأماميين الجدد، حين تأتى الإشارة سيتقدمون ليأخذوا مكان أصدقائهم فى الصف الأول. وبين الصفوف تقف مجموعات على أسطح عربات مختلفة، يمررون المعلومات ويرفعون الأعلام. على جوانب الطريق بدأت التموينات فى الوصول: قنائن المياة وأكياس الخبز. تأتى مجموعات من الخُوَذ فتذهب أول مجموعة فى الحال إلى الشابات: الطبيبات والمساعدات والممرضات اللائى يسعفن الجرحى وراء الصفوف. الحالات الصعبة يجرون بها عبر الميدان إلى المستشفى الصغير فى مسجد عباد الرحمن. أى فرد لا يقوم بعمل يشتغل بقرع الطبول، والطبول هى الصفائح المعدنية من ذلك السور، يقرعها الشباب بإيقاع ونشاط وهمة عالية، مُدَوِّية رتمية منتظمة مُحَمِّسة، هذا صوتنا، صوت المواطنين، صوت الثورة. يقرعون الصفائح المعدنية طوال ساعات الليل. يُخطرون بلطجية النظام أن الشباب متيقظ يقظ، أن الشباب منتظر. صوت مشجع حافز حاشد يقول نحن هنا نحن هنا نحن لا نُهزَم.

 

يوم ٢٨ فوجئ النظام. لم يتوقعوا أن يُهزَموا تماما هكذا فى القاهرة، فى السويس، فى الإسكندرية. الآن استجمعوا قواهم وعادوا. ليس بقوات نظامية ولكن بميليشيات البلطجية، البلطجية وبعض من الجنود والمجندين مرتدين ملابس بلطجية. فيما بعد سوف نكتشف ان من منظمى أحداث اليوم أعضاء فى مجلس الشعب عن الحزب الوطنى الديمقراطى.

 

باستطاعة الجيش ان يوقف كل هذا فى دقيقة. لكنه لا يفعل. فى لحظة ما يرى الناس ظابط وحيدا يطلق رصاصه فى الهواء.

 

نال الشهادة هنا منا ١٣٥ شهيدا، وأصيب منا ٨٢٠ إنسانا.

 

أنهى حديثى مع التليفزيون البريطانى وأتردد. الحرارة عالية والرعشة وآلام المفاصل أسوأ، لكن معركة التحرير تدور على بعد بضعة أمتار منى. وأسرتى فى الميدان. أسرتى كلها، الصغيرة والكبيرة. كل يقوم بدوره. أهاتف عمر مرة أخيرة: «حد محتاج حاجة؟»

 

«لأ، شكرا».

 

«طيب، أقدر أعمل إيه؟»

 

«رَوَّحى يا ماما. أرجوكى رَوَّحى».

 

أعود إلى السيارة. هل من عار جديد تستطيع هذه الحكومة أن تجلبه على نفسها؟ هل يفضل النظام أن يدمر هذا البلد عن أن يرحل؟ بالطبع نعم. أعود إلى البيت متباطئة. الشوارع مظلمة. لكنى خرجت وقمت بالعمل المتاح لى. والشباب سيسيطرون على التحرير. إذا انتصرنا ــ نحن المحبين للثورة ــ  فى هذه المعركة، فالروح التى سادت فى التحرير سوف تسود فى عموم البلاد. فى الميدان ترى كل لون من ألوان الطيف السياسى، اليسار هنا والليبراليون. الإخوان والجماعات والسلفيون موقف قياداتهم الرسمى أنهم لن ينضموا، لكن شبابهم لم ينصاعوا لهذا القرار وهم ايضا معنا. مجتمعنا غنى مُرَكَّب متنوع متعدد، ونحن نفخر بهذا. الشعب هنا سابق لحكومته بدرجات. الشعب هنا خطير. لو تسمع الأطفال فى الشوارع يشرحون لك كيف أن النظام يريد أن يضع مسئولية هذه الثورة على باب الإسلاميين ليبعث الخوف فى قلوب الغرب فيزيدون فى مساندته. لو تستشعر الرغبة فى فعل الخير فى المستشفيات الميدانية بأطبائها المتطوعين ــ شابات وشبان ــ  والأدوية والمعدات يتبرع بها الطيبون. لو ترى الشباب الشجاع ببناطيلهم الجينز الساقطة يذودون عن الميدان، عن المتحف، عما كسبه الشعب فى الأسبوع الماضى فى شوارع بلادنا. لو ترى البنات تعلقن اللافتات من الشرفات.. لأيقنت دون ذرة من الشك أن مصر لا بد أن تتحرر من ظلال هذا النظام البغيض، لا بد أن تأخذ مكانها فى الشمس.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved