«فنان من العالم الطليق».. مصالحة مع أخطاء الماضى!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الجمعة 2 فبراير 2018 - 10:05 ص بتوقيت القاهرة

نحن حقا أمام روائى كبير له عالمه وأسئلته التى تشغل أبطاله، عن «كازو إيشيجورو»، الفائز بجائزة نوبل فى الأدب 2017 أتحدث، كان هذا انطباعى الأول قبل فوزه بالجائزة بسنوات، عندما قرأت له روايته البديعة «بقايا اليوم»، فى طبعتها الصادرة عن المركز القومى للترجمة، بترجمة طلعت الشايب، وتأكد هذا الانطباع بعد الفوز بالجائزة، بقراءة رواية «فنان من العالم الطليق»، بترجمة هالة صلاح الدين، والصادرة أيضا عن المركز القومى للترجمة.

الرواية الأخيرة صدرت فى بريطانيا فى العام 1986، وهى روايته الثانية فحسب، ومع ذلك نجد فيها عالما يتشكل وينضج، وفكرة ستجد تنويعاتها عن علاقته الشخصية بالعالم المحيط بها، وبعالمها الداخلى أيضا، حيث يتم استدعاء الماضى من جديد بكل تفصيلاته، وحيث تؤثر اختيارات قديمة على تكيف الشخصية مع حاضرها، وبينما يبدو السرد بسيطا، والأحداث قليلة، والحوارات مثل ثرثرة يومية عادية، فإن هذا البناء الخادع يخفى دوما أفكارا كبيرة، ويفتح الباب أمام مراجعات سياسية واجتماعية مدهشة، قدرة إيشيجورو على رسم شخصياته قوية ومؤثرة، وقدرته على البناء المحكم لافتة، وهو حكاء ممتاز مثل كل روائى كبير.

المعنى المقصود فى عنوان الرواية المترجم ليس العالم الحر أو المتحرر، وإنما يعنى إيشيجورو، كما فهمت، العالم المتغير والمتحول، ذلك أن الأحداث تجرى فى شهور محددة من أعوام 1948 و1949 و1950، فى إحدى المدن اليابانية، وهى سنوات فارقة بعد استسلام اليابان، وتحولها من إمبراطورية عسكرية منهزمة، إلى دولة ديمقراطية حديثة..

إنها لحظات تغير على كل المستويات، عالم يتداعى وآخر ينهض، والرواية فى فكرتها الأعمق رؤية لهذا التحول من خلال فنان عجوز يدعى ماسوجو أونو، ومراجعة هذا الفنان لماضيه بأكمله، حيث يعترف بخطأه فى مساندة التوسع الإمبراطورى العسكرى، من خلال لوحاته وحملاته الفنية، بل من خلال تعاونه مع وزارة الداخلية، لتهميش وربما عقاب بعض الفنانين غير الملتزمين بالخط القومى اليابانى، ومن هؤلاء أفضل تلاميذه موهبة والذى تعرض للسجن، بسبب وشاية أونو.

بناء الرواية مثل لوحة مخفية رسمت فوقها لوحة أخرى، اللوحة الأوضح عادية جدا، ومحورها رغبة أونو فى تزويج ابنته الثانية، وخوفه من تأثير ماضيه على فرصها فى الاقتران بشاب مناسب، هو تصالح مع هذا الماضى، ولكن الجيل الشاب الذين يمثلهم زوج ابنته الأولى، مثلا، ينظر بغضب إلى اختيارات الآباء.

أما اللوحة الخفية والتى تتسلل إلينا عبر السرد، ثم تتكشف نهائيا فى الخاتمة، فهى تحولات أونو نفسه، من فنان يبحث عن عالمه الخاص، إلى واجهة دعائية لنظام دمر وطنه، اللوحة الأعمق أيضا عن تحولات اليابان وهى تبعث من جديد من رماد الحرب المدمرة.

حكاية زواج ابنة تتحول إلى فتح كل الملفات القديمة على مستوى الفن والسياسة والأصدقاء، يبدو أونو، مثل ستيفنز بطل «بقايا اليوم»، شديد السذاجة فى فهمه وتصوره للعالم، ولكن أونو يواجه خطأه ولا يهرب منه، هناك براعة حقيقية فى شرح فكرة الامتثال والولاء والخيانة عبر الفن من خلال أستاذ معلم، لا يمكن كسر منهجه أو طريقته الفنية المقدسة، وبين فكرة الامتثال للمؤسسة، والدفاع عن الوطن، وقد قال الرسام العجوز لصديقه أونو إن أحدا لم يهتم يوما بماضيه من الأساس، أى إنه صار خارج الزمن الجديد نهائيا.

رغم ثقافة إيشيجورو الإنجليزية، ورغم كتابته لروايته بلغة مختلفة عن لغته الأم، إلا أننا أمام رواية يابانية تماما، تدهشك تفصيلات كثيرة عن الأماكن والعادات، رغم أن كاتبنا ترك وطنه طفلا صغيرا، يلفت الانتباه أيضا براعة الانتقال من حكاية إلى أخرى، وذكاء الحوارات إلى درجة يصلح معها النص، ببعض التصرف، لكى يتحول بسهولة إلى مسرحية ممتازة.

ثلاثة أجيال فى لحظة سائلة، أونو، وابنتاه، وحفيده إيشيرو، بيت أونو صار فارغا بعد تزويج ابنتيه، والحانة القديمة هدمت، لكنه لم ينتحر تحت وطأة الشعور بالذنب، لم يبق له سوى تأمل ماضيه بتصالح، وبرغبة فى التبرير، ثم النظر للموظفين الشبان بأمل فى مستقبل أفضل، قد يأتى ذات يوم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved