أزمة الوطن والنظام فى مأساة أقباط العريش

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 2 مارس 2017 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

على شدة الفجيعة فى عملية الترحيل أو النزوح القسرى لعدد كبير من أقباط العريش، بعد أن رأوا الإرهابيين يقتلون ويحرقون بعضهم، تنفيذا لتهديدات علنية سابقة، فها هى ذى لحظة تكشف مرة أخرى أن المجتمع مستعد للاصطفاف بالعقل، لا بالحناجر، وبالعمل والمشاركة، لا بالمبايعة والإقصاء، ضد العنف والإرهاب والتمييز الدينى.
المجتمع هو الذى بادر إلى إعطاء الأزمة حجمها الحقيقى، وهو الذى انتبه من خلال المبادرات الفردية والجماعية إلى الحاجة إلى التضامن الفورى مع النازحين، والى العمل الفورى كى لا تتكرر هذه السابقة الخطيرة لا فى سيناء، ولا فى أى مكان آخر على أرض مصر، وبصراحة قد تكون مؤلمة فالمجتمع هو الذى نبه الدولة إلى حجم الكارثة، ودلالاتها، واضطرها للاعتراف بذلك الحجم، وتلك الدلالات.
ينبغى إذن ألا تهدر هذه الفرصة، كما أهدرت سابقات عديدة لها فى السنوات الأخيرة، بسبب الخلط بين ما هو رئيس، و ما هو فرعى فى الصراع السياسى، إذ لا يزال الصراع ضد التنظيمات الرافضة لمبدأ الدولة الوطنية، أى دولة المواطنة والقانون، والمؤمنة بالعنف والإرهاب لتحقيق أهدافها هو الصراع الرئيسى، ولذا فانخراط القوى المؤمنة بالدولة الوطنية فى صراعات جانبية حادة فيما بينها لا يستساغ عقلا، ولا يجدى عمليا، وبصراحة قد تكون مؤلمة أيضا فإن المسئولية الأكبر عن تفجر هذه الصراعات الجانبية تقع على السلطة التى لم تدخر جهدا فى إقصاء بقية الشركاء فيما يسمى تحالف 30 يوليو الذى أسقط حكم جماعة الاخوان المسلمين.
ولكى يكون الاصطفاف بالعقل والعمل والمشاركة، لا بالحناجر والمبايعة، لابد من توافق التيار الرئيسى المؤمن بدولة القانون والمواطنة على التشخيص الصحيح لأزمة أقباط العريش فى سياقاتها الأصلية، لأنها بالقطع تدخل فى أكثر من سياق.
فهى جزء من أزمة سيناء، وهى جزء من أزمة الأقباط، وهى ثالثا جزء من الأزمة العامة فى مصر، وهى رابعا جزء من الأزمة الشاملة فى إقليم الشرق الأوسط.
لا تتسع المساحة هنا لتناول السياق الإقليمى الأوسع لأزمة الأقليات القومية والدينية فى الشرق الأوسط، ولذا نركز جهدنا على السياقات الوطنية الثلاثة السابق ذكرها، مع عدم إغفال أن أزمة سيناء لها أبعاد إقليمية بالقطع، سواء بتدخل أطراف غير مصرية فيها بالتمويل والتسليح أو الإمدادات البشرية، أو بإدراجها ضمن مشروعات التسوية الإقليمية الموسعة للصراع العربى الإسرائيلى، كما أصبح يتردد يوميا فى وسائل الإعلام، والصحف والنشرات البحثية فى إسرائيل.
لكن يبقى أن أزمتنا فى سيناء هى أزمة وطنية مصرية قبل أى شىء آخر، وبعد أى شىء آخر، والمهمة الأولى للدولة المصرية هناك هى دحر الإرهاب بالطبع، فإذا كنا قد نجحنا بنسبة كبيرة فى هزيمة الإرهابيين فى الوادى والدلتا، إلا من عمليات لذئاب منفردة على فترات متباعدة، فإن ذلك لا يرجع فقط إلى الجهود المقدرة لأجهزة الأمن، ولكنه يرجع أيضا إلى عدم استعداد الأغلبية الكاسحة من المواطنين لتوفير حاضنة شعبية لهؤلاء الإرهابيين، ولذا تحولوا إلى ذئاب منفردة، كما سبق القول، أو إلى خلايا متناثرة.
وعلى الرغم من أحقية الانتقادات الموجهة للطريقة السلطوية فى ممارسة الحكم، ولانتهاج سياسة الاقصاء، والريبة فى السياسة والسياسيين والناشطين، فإن الذى لاشك فيه أن شعبية الرئيس عبدالفتاح السيسى لا تزال كافية لمنع تحول بعض معارضيه إلى حاضنة للإرهابيين، وهذا ما نأمل استمراره، ولكننا نخشى أن ما يصلح للأجل القصير أو المتوسط، قد لا تستمر صلاحيته فى الأجل الطويل، وبالقطع فإن مشهد جنازة مفتى الجماعة الإسلامية الراحل الدكتور عمر عبدالرحمن هو أحد المؤشرات المقلقة.
نعود إلى سيناء، فمعنى أن يحتفظ الإرهاب بزخمه على الرغم من الحرب المستمرة ضده منذ 4 سنوات، أو أن يستعيد هذا الزخم بعد كل ضربة، إلى حد توجيه الإنذارات علنا إلى الأقباط، وإلى المدرسات، والتلميذات، ثم إلى المتعاونين مع السلطات، ثم يتبع التهديدات بالتنفيذ.. معنى ذلك أن الإرهابيين يتلقون إمدادات بشرية ولوجستية وفيرة، وإذا كان جزء كبير من هذه الإمدادات يأتى تهريبا من الخارج، فإن جزءا كبيرا آخر يآتى من الداخل بالتأكيد، وفى كل الأحوال فالأقدر على مراقبة حدود وسواحل وطرقات سيناء هم أهلوها، وقد كان هؤلاء هم عيون وظهير قواتنا المسلحة فى مواجهتها مع إسرائيل فى كل مرة.
قد يقال إنهم خائفون من الإرهابيين، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن هناك أخطاء ارتكبت من الأجهزة الحكومية العاملة هناك ضدهم، وقد عددها كثيرون فى هذه الصحيفة، وفى غيرها، وأخطر هذه الأخطاء فى اللحظة الراهنة هى تأليب قبائل ضد قبائل، لأن الطبيعة القبلية تدفع الطرف المختصم إلى تطرف فى العداء لا حدود له، تتوارثه الأجيال، وبالقطع فليست هى المصادفة التى جعلت التصعيد الأخير فى العريش يأتى فى أعقاب الأزمة بين حلف ديوان آل أيوب وبين وزارة الداخلية المصرية وهى أزمة معروفة بكل تفاصيلها، وكأن هناك من أراد أن يبرهن على أن قوات الأمن والجيش لا تستطيع الانتصار على الإرهابيين، دون مساعدة مخلصة من السكان المحليين، الذين استهين بغضبهم، وبمطالبهم الأولى، ثم بإنذارهم بالعصيان المدنى.
الدرس هنا أن الأزمات من هذا النوع لا تدار بأسلوب مكائد الضرائر، أو أسلوب مشايخ الخفراء فى النجوع السحيقة، وعلى من تصوروا أنه يمكن ضرب قبيلة غاضبة بحق أو بدون حق بقبيلة أخرى ألا ينسوا أن جميع هذه القبائل كانت موحدة فى رفض الاستقلال عن مصر برعاية إسرائيلية، فى مؤتمر الحسنة فى عام 1968 بحضور وتحريض موشى ديان وزير دفاع إسرائيل، فكيف نأتى نحن ونضرب بعضهم ببعض مهما تكن الأسباب، لكن لا يزال بالإمكان تدارك ما فات، بل يجب تداركه بأقصى سرعة، فأى ثمن سياسى يرخص أمام استعادة ثقة هذه القبائل، ومساندتها للدولة، متضامنة مع القبائل الأخرى.
أما أزمة الأقباط فى مصر، والتى تعتبر أزمة ترحيل أقباط العريش جزءا منها، فهى أيضا ــ وبالصراحة المؤلمة نفسها ــ أحد منتجات الحكم السلطوى المستمر بلا انقطاع منذ تأسيس نظام ضباط يوليو 1952، فمن الحقائق التاريخية أنه لم يكن بين الضباط الأحرار أقباط، وإذا كان ذلك مفهوما ــ ولا أقول مقبولا ــ بسبب قلة عدد الضباط الأقباط فى الجيش الملكى، فليس مفهوما أن تبقى جميع التنظيمات السياسية التى أقامها ضباط يوليو خالية فى مستوياتها القيادية، والوسيطة من الشخصيات القبطية، حتى ولو كانت هذه التنظيمات شكلية، وعندما أراد الرئيس السادات أن يتدارك هذا الخطأ عند تشكيل حزبه الوطنى الجديد باختيار السيد فكرى مكرم عبيد أمينا عاما له، فإن التجربة لم تكتمل، لأن تجربة التعددية الحزبية نفسها لم تكتمل، وسرعان ما نحى عبيد جانبا تحت مسمى رئيس الحزب، ثم استبعد نهائيا فيما بعد.
ويأتى انفجار الصراع السياسى منذ اللحظات الأولى لنظام يوليو بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين ثم مع تنظيمات الإسلام السياسى ككل، ليحصر الأقباط فى فخ السلبية السياسية مظهرا وجوهرا، فى حين كان الموالون «المسلمون» ينشطون مظهرا، وكان أعضاء التنظيمات الإسلامية يستعدون سرا، ولتصبح الكنيسة هى ملاذ الأقباط دنيويا، مثلما هى ملاذهم الروحى.
فى أثناء حديث البابا شنودة الثالث بدير الأنبا مقار، فى تسعينيات القرن الماضى حول مشكلات الأقباط العامة، سأله أحد الصحفيين الزائرين ــ وكنت بينهم ــ لماذا لا تطلب لقاء الرئيس مبارك، وتشرح له كل ذلك؟ فكان رد البابا، إننى لا أريد أن أحرجه بطلب اللقاء فى وقت يخوض فيه حربا ضد الإرهاب، ويحاكم الإرهابيين الذين ينفذ فى بعضهم حكم الإعدام، حتى لا تقول دعاية المتطرفين، إنه يفعل ذلك إرضاء لشنودة، أو بتحريض منه.
ومع أن تلك ليست هى الطريقة الصحيحة للمطالبة بحقوق الأقباط فى دولة مدنية ــ كما ينبغى أن تكون دولتنا ــ إلا أن رد البابا يكشف عمق المأزق الذى يجد الأقباط أنفسهم محشورين فيه بين السلطوية، وبين«الإسلام السياسى«، كما يكشف أن الدمج السياسى المدنى مع قيام السلطة لدورها الأصلى فى تنفيذ القانون هما السبيل لإخراج الأقباط، والمجتمع ككل من هذا المأزق.
سيقول السطحيون والمغرضون إنه كان هناك دائما وزراء أقباط، ولكن ذلك كان الحد الأدنى الذى بدونه تصبح الحكاية مكشوفة أكثر من اللازم.
هنا نكون قد وصلنا إلى الأزمة العامة فى مصر، وباختصار فإن هذه الأزمة بجوانبها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الحادة تندرج كلها تحت عنوان واحد، هو الحاجة إلى التجديد السياسى، بمعنى الإيمان بأن العمر الافتراضى لنظام يوليو 1952 انتهى منذ عقود، هذا النظام الذى يقوم على علاقة شعبوية بين الرئيس والجماهير، بما يسمح بفردية القرار، وممارسة السلطة بالأجهزة الأمنية والإدارية فقط، ويعطل أدوات المبادرة والرقابة والمساءلة السياسية.
الأدلة الدامغة على انتهاء العمر الافتراضى لنظام يوليو وفيرة، وموثقة فى مطالب ثورة يناير، ثم فى خريطة الطريق التى أعلنت فور سقوط حكم جماعة الإخوان، ثم فى روح ونصوص دستور 2014، ثم فى الجزء المسكوت عنه فى رؤية مصر 2030، لكن الممارسة العملية انشغلت بتفريغ هذه الالتزامات من مضمونها، أملا فى ترميم أنقاض نظام يوليو، باستخدام مادة لاصقة وحيدة هى شعبية الرئيس السيسى، التى قلنا عنها آنفا، إن ما يصلح فى الأجل القصير، قد لا تستمر صلاحييته فى الأجل الطويل، خصوصا أن المؤسسات أصبحت أقل كفاءة، وأن الوجوه أصبحت أقل موهبة وإقناعا، وأن الظروف أصبحت أكثر صعوبة، وفوق كل ذلك أصبحت الأجيال الجديدة أكثر فهما وطموحا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved