نائبان عامَّان لا نائب واحد.. واستمرار مسلسل العبث القانونى

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 2 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

هذا الأسبوع انتقل المشهد القانونى فى مصر من حالة الأزمة والتخبط إلى مرحلة الكوميديا السوداء.

 

لن أخوض فى تفاصيل حكم المحكمة الصادر أخيرا بوقف تعيين النائب العام، فالتفاصيل ليست مهمة بل صارت تشبه المعارك الدائرة بين المتنازعين على ملكية شقة سكنية: دفوع واستشكالات وحيل من محامى الطرفين وبحث عن مسودة الحكم وطعن عليها قبل فوات الأوان وجميع أنواع المناورات الاجرائية. لم يبق ــ استكمالا للمقارنة ــ سوى أن يشغل منصب النائب العام من يتمكن من تغيير «كالون» دار القضاء العالى قبل غيره أو من يسرع بإحضار أقاربه لاحتلال مكاتب النيابة العامة فى جنح الظلام. أن يتحول منصب النائب العام إلى ساحة لمثل هذا الصراع الهزلى فتلك فضيحة بكل المقاييس ولا تليق بهذا البلد ولا بتاريخه القانونى ولا بتراثه الذى بنيت عليه دساتير وقوانين الوطن العربى.

 

شخصيا لا تشغلنى كثيرا تفاصيل النزاع لاعتقادى أن النائب العام المحكوم ضده ما كان ينبغى له أن يستمر فى منصبه أصلا، ليس لعيب قانونى فى تعيينه على نحو ما قررت المحكمة، وإنما لأن وقار وقدسية وخطورة منصب قضائى على هذا المستوى لا تسمح بأن يشغله شخص محل رفض من أعضاء النيابة العامة، شغل منصبه استنادا إلى إعلان دستورى باطل، ثم تراجع عن استقالته بعد أن كان قد أعلنها على مرأى ومسمع من الجميع، وأخيرا يصر على الاستمرار فى موقعه برغم الحكم ببطلان تعيينه وبعد أن تسبب فى انقسام الهيئة القضائية. كان الأجدر به أن يتخلى عن منصبه طواعية منذ البداية حرصا على وحدة وترابط الهيئة القضائية، وعليه الآن أن يستغل فرصة الحكم الاخير للانسحاب ووضع نهاية لهذا الفصل المؤسف من التخبط القانونى والدستورى.

 

هذا عن قضية النائب العام.

 

ولكن الحقيقة أن عبثية المشهد القانونى فى مصر لم تبدأ بهذا الموضوع، بل ترجع إلى الأيام التالية لثورة يناير مباشرة ولا تزال ممتدة معنا حتى الآن، اذ تعاملت القوى السياسية كلها منذ اللحظة الاولى مع القانون بشكل شديد الانتقائية وبما يخدم أهدافها السياسية دون أن يشغلها كثيرا أثر ذلك على العدالة أو يقلقها الظلم الواقع على المجتمع. سيطر على الساحة مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة وأن القانون يمكن أن يأخذ إجازة إلى أن تتحقق أهداف الثورة. والنتيجة أننا خلال عامين سكتنا عن الاعتداء على القضاة فى محاكمهم، وعلى الدفع بالمتهمين إلى ساحات المحاكم بناء على تهم بعضها حقيقى والآخر لا أساس له من الصحة، وعلى العودة لنظام الكسب غير المشروع المخالف للدستور ولمبدأ أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته، وعلى إعادة محاكمة من صدرت بحقهم أحكام بالبراءة إرضاء للرأى العام، وعلى حصار المحكمة الدستورية العليا ومنع قضاتها من الرقابة على قرارات رئيس الجمهورية، وعلى استمرار النائب العام فى منصبه برغم رفض وكلاء النيابة العامة، وعلى اتهامات صريحة من السياسيين للقضاة بالانحراف كلما أصدروا أحكاما لا تعجبهم. طبيعى إذن أن يكتمل المشهد العبثى بأن يصبح لدينا ــ فى سابقة سوف نفخر بها بين الأمم ــ ليس نائبا عاما واحدا بل نائبين عامّين.

 

القضية مع ذلك ليست بسيطة، وأزمة القانون والعدالة التى تمر بها مصر تعبر عن إشكالية حقيقية تواجه كل مجتمع يمر بتغيير ثورى أو بتحول اجتماعى كبير ومفاجئ. إشكالية أن البناء القانونى الذى وضعه الحكم السابق وأحكم به حماية مصالحه لا يصلح أن يكون أداة تغيير هذا النظام. لذلك فهناك حتما تعارض بين مفهوم الثورة والتغيير من جانب وبين فكرة احترام القانون القائم من جانب آخر. هذه إشكالية حقيقية ومهمة ولا يمكن تجاهلها أو الاعتقاد بأن آليات القانون والنيابات والمحاكم سوف تستمر فى العمل بنفس الأسلوب ووفقا لذات القواعد فى أعقاب ثورة شعبية. ولكن مع ذلك فإن التعامل معها على هذا القدر من الانتقائية والتخبط لم يكن ضروريا، بل كانت هناك حلول بديلة وقابلة للتطبيق فى إطار ما يعرف بفكرة «العدالة الانتقالية». هذه الفكرة تعنى تجديد النظام القانونى وتصحيح مساره من خلال مجموعة من القوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تحقق أهداف وآمال الناس فى التغيير، ولكن فى اطار من المشروعية والعدالة وبما يحقق توازن المصالح الجديد داخل المجتمع، وهى فكرة تم تطبيقها بنجاح فى جنوب افريقيا وفى العديد من بلدان شرق اوروبا، وتحقق بها التوازن المنشود بين التغيير والعدالة.

 

والواقع أن هذه الفكرة لم تكن غائبة عن الساحة المصرية، بل دعت إليها عقب الثورة أحزاب سياسية وجمعيات أهلية ومنظمات لحقوق الانسان ومنظمات دولية متخصصة، ولكن تم تجاهلها جميعا من جانب كل من وجد نفسه على مقعد الحكم. تجاهلها المجلس العسكرى حينما كان وحده فى السلطة، ثم البرلمان المنتخب خلال فترة انعقاده، وأخيرا جماعة الاخوان المسلمين بعدما استقر لها الحكم والرئاسة والحكومة. لماذا؟ لأن كل من يجد نفسه فى السلطة يكتشف أن بمقدوره استغلال ترسانة القوانين القائمة من أجل إحكام قبضته على الحكم وإصدار قرارات غير دستورية والتنكيل بخصومه السياسيين وتقييد حرية الاعلام وإسكات المعارضة. فلم إذن يغير الحاكم هذا النظام الذى يثبت كفاءته مرة تلو الأخرى؟

 

قضية النائب العام سوف تعقبها قضايا وأزمات أخرى كلها تنتقص من قدر ومصداقية النظام القانونى المصرى ما لم ننتهز الفرصة للتصدى للأزمة من جذورها ونعمل على إنقاذ ما تبقى من مؤسسات وتراث القانون والعدالة فى مصر. التحدى صعب ولن يتسنى النجاح فيه بمجرد إصدار قانون أو أكثر، بل بحوار واسع فى المجتمع، بعيدا عن السياسة وعن الصراع على السلطة. والقضاة أنفسهم، شيوخا وشبابا من مختلف المواقف الفكرية، بكل ما أثبتوه من حرص على المشاركة ورغبة فى الإصلاح وفهم عميق لطبيعة الأزمة، عليهم واجب فى المشاركة فى النهوض بمهنتهم المقدسة والدفع للخروج من هذه الحالة العبثية. بغير ذلك فسوف تظل العدالة ضائعة والقانون أداة سياسية والصراع على السلطة القضائية امتداد للصراع على الحكم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved