كائنات تهاجر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 2 يونيو 2010 - 9:52 ص بتوقيت القاهرة

 قضيت بعض ساعات المساء أشهد نقاشا عن هجرة الشباب. رأى يرى الهجرة تهديدا للثروة البشرية التى لا يجوز التفريط فيها وبخاصة بعد أن فرطنا فى الثروة المادية والأخلاقية، ورأى يرى فى الهجرة منافع، تبدأ بالتخلص من فائض بطالة وتنتهى، إن توفرت النية والخبرة والتخطيط السليم، بعودة منتظمة لآلاف المهاجرين بعد أن يكونوا قد اكتسبوا خبرات نادرة ومهارات فائقة وثروات وفيرة. وكان من بين النماذج التى استعان بها أصحاب هذا الرأى الهند والصين اللتان شجعتا أو كلفتا مئات الألوف من الشبان فهاجروا، وبعد عقدين أو ثلاثة استدعتهم فعادوا.

كل الكائنات تهاجر.. تهاجر حين تبرد أو تحن أو يضيق صدرها أو يصيبها الضجر أو تجوع أو تعطش وحين تكتمل حتى تهيمن رغبات التكاثر وتتعاظم عواطفه. حيوانات البرارى تهاجر وكذلك أسماك البحار وطيور السماء والساعون فى الأرض من بنى البشر.


قضيت ساعات الصباح التالى أقرأ عن هجرة الكائنات، واخترت الطيور. كانت مراقبة الطيور المهاجرة أحد مصادر الاستمتاع بفترات بشائر الصيف فى الإسكندرية، حيث كنا نقضى الإجازة السنوية، وحيث عشت مراحل سعيدة من شباب عمرى. هناك وفى مواعيد تكاد تكون ثابتة كنا نخرج إلى سواحل غرب المدينة لنرى أفواج السمان فى السماء تغطى عين الشمس وهى تستعد للهبوط، وعلى الأرض تنتظرها شباك شاهقة الارتفاع، أو هكذا بدت لنا فى ذلك الحين، نصبها صيادون يعرفون مواقع هبوط السمان وهم على ثقة كاملة أنه لن يغير مواقع هبوطه المعتادة.

قرأت بين ما قرأت خلال ساعات هذا الصباح عن عالم من علماء الأحياء تخصص فى مراقبة عادات الطيور وهجراتها. لفت نظره فى شبه جزيرة الآسكا طائر هو الأوفر سمنة بين جميع الطيور التى عرفها، حتى إنه عندما يطير مع أقرانه يبدون فى السماء ككرات طائرة.

لا حظ أن هذا الطير يرحل من الآسكا كل عام مع اقتراب الشتاء، متوجها إلى استراليا ونيوزلندة. تصور صديقنا روبرت جيل عالم الأحياء أن الطير يقطع الرحلة على مراحل وأنه يطير على مقربة من سواحل شرق آسيا فى طريقه جنوبا. بدأ روبرت جيل دراسته عن رحلة هذا الطير فى السبعينيات من القرن الماضى عندما لم يكن لديه من الخبرة أو الأدوات ما يسمح له بالتأكد من تفاصيل هذه الهجرة وما إن كان الطير يقطعها على مراحل وإن كان يطير بالقرب من البر.

لم يتأكد البروفسور جيل إلا بعد ثمانية عشر عاما عندما تقدمت التكنولوجيا. استطاع أن يزرع فى جسم الطير جهاز إرسال متصلا بأقمار اصطناعية تعيد إرسال المعلومات التى يجمعها إلى الكمبيوتر الخاص به. عندئذ وللمرة الأولى تمكن من المتابعة عن بعد. انطلقت الأسراب من مهجرها فى لحظة واحدة وطارت فوق المحيط الهادى بعيدة عن الشواطئ الآسيوية، متجهة جنوبا نحو أستراليا ونيوزلندة.

لم تتوقف الطيور لتأكل أو لتشرب خلال رحلة الطيران التى استغرقت تسعة أيام وقطعت مسافة 11.300 كيلو متر. إذاعة المعلومات الأولية عن هذه الرحلة دفعت أستاذا بجامعة لوند بالسويد إلى اعتبارها أطول رحلة طيران عرفها العلم الحديث.


لم يمر وقت طويل حتى جرى اكتشاف رحلات طويلة أخرى لطيور شتى، إحداها رحلة من جرينلاند فى أقصى شمال المحيط الأطلسى تنطلق فيها أسراب طير من نوع آخر متوجهة جنوبا. لفت النظر أن الأسراب تتوقف خلال الرحلة فى جزر قريبة من سواحل شمال شرق أفريقيا حيث تتناول طعامها من البحر، ثم تستأنف رحلتها نحو القارة المتجمدة الجنوبية قريبا من الأرجنتين، وعند اقتراب الشتاء من نهايته تعود بالطريق ذاتها إلى جرينلاند،

حيث يبدأ الصيف الشمالى. يقدر العلماء أن يكون الطير قد طار خلال هذه الرحلة وحدها مسافة 79.520 كيلومتر. ويحسبون أنه خلال حياته يقطع ما يزيد على 2.3 مليون كيلو متر، أى ما يعادل ثلاث أضعاف المسافة التى يقطعها مسافر من الأرض إلى القمر ذهابا وعودة.

يقول العلماء الذين تابعوا هذه الهجرة الموسمية إنهم استخدموا لمعرفة تفاصيل هذه الرحلة جهازا ثبتوه داخل جسم الطير، يجمع المعلومات ويحتفظ بها لحين عودته ليتولى العلماء تحليلها، تماما كالصندوق الأسود المخبأ فى بطن الطائرة. بفضل هذه الدراسات والتقدم العلمى وطفرة التكنولوجيا أصبحنا نعرف أن للطائر المهاجر كبدا وأمعاء أكبر من المألوف قادرة على هضم الطعام بسرعة ليتحول جانب منه لتقوية عضلات الصدر وجانب آخر إلى دهون، حيث تبين أنه عند الرحيل تمثل الدهون نسبة 55% من وزن الطير.

يبقى لغز لم يجد لدى العلم حلا له. لم نعرف بعد كيف يحدد الطير موقعه بالدقة المتناهية التى لاحظها وسجلها علماء الحيوان، ولم نعرف كيف يختار أرضا بعينها يهاجر إليها والطريق إليها، وكيف يحدد بالساعة والدقيقة والثانية مواعيد السفر ذهابا وعودة.

هكذا تحافظ الكائنات على النوع وتجدد نفسها ومهاراتها، وهكذا يكون الانتماء. أعرف أن بيننا من يريد تخوين الطير الذى يهاجر سعيا وراء جو أفضل أو رزق أوفر أو خلوة فيتشجع ويضع بيضه ويرقد فوقه ويطعم فرخه.

وبيننا أيضا من لا يهتم إن أقام الطير أم هاجر أم عاد. وأتمنى أن يكون بيننا، ويزداد عددا، من يشجع الطير ليهاجر ويعود مكتسبا مهارات جديدة ومعه فرخ صحيح الجسم والعقل، أو يبقيان حيثما اختارا ونبقى نحن هنا نعمل لنستعيد ثقتهما فى الوطن وليطمئنا إلى أن هذا الوطن سيتعلم يوما كيف يبادلهما الحب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved