التهجير القسرى ودور الدولة والمجتمع

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 2 يونيو 2015 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

مرة أخرى تطل علينا أخبار مؤسفة عن تهجير قسرى لعائلات قبطية فى بنى سويف والمنيا بموجب جلسات عرفية يحضرها ممثلو الأهالى ورجال الدين والدولة.

الذين يحضرون ويشاركون فى هذه الجلسات من أعيان البلاد ورجال الدين يفعلون ما يعتقدون أنه الصواب لأنه يبعد عن العائلات والقرى فى الصعيد خطرا أكبر، وهو أن يتحول خلاف محدود إلى فتنة طائفية، تأتى على الأخضر واليابس، وتفتح بابا يتمنى الجميع أن يظل مغلقا.

ولهذا فهم يقبلون بحلول معيبة درءا لما يعتقدون أنه خطر أكبر. لذلك فإننى شخصيا لا ألوم من يسعى فى مثل هذه الظروف المتفجرة وبنية صادقة لحقن الدماء ووقف الاحتقان الطائفى ووأد الفتنة فى مهدها. ولكن ما يستحق التوقف واللوم هو أن تكون الدولة وأجهزتها طرفا فى أى من ذلك، وأن تقبل ما تسفر عنه جلسات الصلح التى تكون نتيجتها تهجير عائلة من قريتها لأن فردا منها قد ارتكب عملا مشينا أو مستفزا أو حتى مخالفا للقانون.

التهجير ليس عقوبة يعرفها أو يعترف بها القانون، بل اعتبرها الدستور جريمة فى حد ذاتها، ووضعها فى مصاف الجرائم الكبرى التى لا تسقط عقوبتها بالتقادم. يضاف إلى ذلك أن تهجير عائلة بأكملها لأن فردا منها قد تجاوز المقبول اجتماعيا وأخلاقيا أو حتى لأنه ارتكب جريمة، فيه مخالفة صريحة لمبدأ دستورى مستقر، وهو «شخصية الجريمة والعقوبة»، أى أن الجريمة يجب أن تنسب إلى شخص بعينه، وأن يعاقب عليها وحده. أما التهجير فهو عقوبة جماعية تقع على أفراد الأسرة الذين لم يرتكبوا أى خطأ. وكل هذا بفرض وقوع الجريمة أصلا، بينما الواقع أن البداية غالبا ما تكون مجرد إشاعات وتلميحات وتصرفات صبيانية، ولكن يتخذها المتشددون ذريعة لإشعال نار الفتنة وتصفية حسابات قديمة. ولكن فى كل الأحوال فلا يجوز للدولة أن تشارك فى قرارات تهجير أى مواطن، أو ترعاها، أو تعترف بها، أو تساعد على تطبيقها، لأن اعترافها بأى من ذلك هو اعتراف بانهيار مبدأ المواطنة وبأن سلطة الدولة فى حماية مواطنيها قد تراجعت أمام ضغوط المجتمع وسطوة التيارات الدينية المتشددة.

والتهجير ليس ظاهرة جديدة فى الصعيد، وإن كانت حدته قد تزايدت خلال الأعوام التالية على الثورة بسبب انفلات الأمن وانتشار السلاح وتصدر الجماعات الدينية المتشددة للمشهد واعتقادها أن بيدها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والدولة كانت غالبا ما تستجيب لضغوط الأمر الواقع وتقبل اتفاقات التهجير لكى تتجنب المواجهة، وفى أوقات أخرى قليلة تتمسك بتطبيق القانون وبتقديم الجناة من الجانبين إلى العدالة وحماية من ليسوا طرفا مباشرا فى الخلاف.

حاليا لا أظن أن بين الغالبية الساحقة من المواطنين المسيحيين فى مصر من يشك فى وقوف الدولة بكل مؤسساتها فى مواجهة عودة الحكم الدينى، ولا فى حرصها على حماية حقوقهم ومكانتهم فى المجتمع، وهو ما عبرت عنه رمزيا زيارة رئيس الجمهورية للكاتدرائية المرقسية بالعباسية فى أثناء إقامة قداس عيد الميلاد الماضى، وكانت زيارته وكلمته محل تقدير هائل بين الحاضرين والمتابعين على شاشات التليفزيون على حد سواء. ولكن من جهة أخرى فإن الخطاب الإعلامى والرسمى السائد ينظر إلى كل نقد للدولة وأجهزتها وكل إشارة إلى تقصير أو خلل فى التعامل مع الشأن الطائفى، كما لو كان يصب فى خانة هدم الدولة وزعزعة الاستقرار، أو يدعم الإعلام الإخوانى، أو يضعف من اصطفاف الشعب وراء قيادته. والنتيجة أن الحديث عن المواطنة والتجاوزات التى تجرى وتقصير أجهزة الأمن أصبح، مثله مثل الحديث عن الدستور والعدالة والحريات، محل توجس ومصدرا للانقسام والاتهام بالخروج عن الصف الوطنى، بينما أن الذين يدفعون ثمن هذا الصمت المريب والسكوت على التجاوزات هم سكان القرى النائية البعيدون عن دوائر الحكم والنفوذ والتأثير.

الفتنة الطائفية كامنة وقابلة للاشتعال فى أى وقت. والأوضاع الاقتصادية والثقافية القائمة لا تزال تغذيها. والفجوة فى المجتمع بين المسلمين والمسيحيين حقيقية وقد صنعتها أعوام وعقود من التوجس والخرافة والصراع على موارد محدودة. ولكن التصدى لها لن يكون ممكنا بالسكوت على التجاوزات والاعتماد على أجهزة الدولة وحدها لكى تديرها بذات الوسائل التى أدت إلى تفاقمها خلال العقود الماضية، بل يلزم أن يصاحب ذلك مواجهة من المجتمع، تتمثل فى إصدار قوانين لحماية المساواة ومنع جميع أشكال التمييز والتفرقة، وفى إتاحة الدولة المجال للمجتمع المدنى لكى يقوم بدوره فى التوعية وفى بناء جسور التفاهم وفى تشكيل آليات للإنذار المبكر تعمل على رصد بوادر الاحتقان الطائفى وإزالة أسبابه والتعامل مع عواقبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved