تركيا.. ومحاولة فهم ما حدث

علاء الحديدي
علاء الحديدي

آخر تحديث: الإثنين 2 يوليه 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

المرة الأولى التى زرت فيها تركيا كانت فى صيف عام ١٩٨٦، قمت خلالها بزيارة إسطنبول وأزمير بجانب أنقرة التى كانت مقرا لى. وقد مررت بالعديد من القرى والمراكز بين هذه المدن الثلاث حين كنت أنتقل بينهم بالسيارة مما مكننى من مشاهدة العديد من أوجه الحياة فى هذه المناطق. وكان أكثر ما لفت نظرى حينذاك هو هذا الفارق الكبير بين الحضر والريف، بين سكان المدن وخاصة من الطبقة الوسطى، ناهيك عن النخبة، وبين سكان القرى والأحياء الشعبية فى ذات المدن. لم يكن هذا الانقسام قاصرا فقط فيما يتعلق بالملبس والمظهر، وخاصة ما يغطى الرأس ــ أى الحجاب ــ بالنسبة للنساء، ولكنه كان يمتد إلى كثير من نواحى الحياة والسلوكيات الاجتماعية والثقافية. ورغم ما كنت قد درسته من قبل كطالب علوم سياسية عن مجتمعات الشرق الأوسط، من وجود نخبة «علمانية» تقلد الغرب الأوروبى فى كثير من عاداته وسلوكياته الاجتماعية والثقافية، وأغلبية شعبية من سكان الريف والأحياء الشعبية الفقيرة فى المدن الذين يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم الشرقية الإسلامية، إلا أن ما رأيته وشاهدته كان يفوق كثيرا ما كنت أتوقعه ولا يمكن مقارنته بذات الانقسام الحادث فى مصر كما كانت تذهب بعض الدراسات.

وقد تأكد لى هذا الانطباع عندما عدت كسفير لمصر فى تركيا بعد ذلك بنحو عشرين عاما فى سبتمبر من عام ٢٠٠٧، وهو توقيت مهم نظرا لتزامنه مع انتخاب عبدالله جول رئيسا للبلاد قبلها بأسابيع قليلة واحتدام الصراع السياسى بين النخبة العلمانية وحزب العدالة والتنمية. ودعونى أسوق هنا بعض الأمثلة التى توضح مدى غلو النخبة الحاكمة التركية فى علمانيتها فى ذلك الوقت. وأذكر فى هذا الصدد أن السفارة تلقت دعوة من إحدى الشركات الكبرى لحضور حفل استقبال بها لمناسبة ما وذلك خلال شهر رمضان المعظم، وكان حفل استقبال على النمط الغربى بما فى ذلك تقديم مشروبات روحية دون أدنى اعتبار لشهر رمضان أو للحضور من الصائمين. المثل الآخر كان عندما حضرت مجموعة من ضباط الداخلية المصرية للمشاركة فى دورة تدريبية تنظمها أكاديمية الشرطة التركية، وكيف ضغطت لتغيير البرنامج ليأخذ فى الاعتبار صلاة الجمعة، وهو ما كان يمثل تنازلا كبيرا من جانب الداخلية التركية آنذاك، والتى كانت تقوم بإعفاء أى ضابط وطرده من الخدمة لأدائه أبسط الشعائر الدينية باعتبار ذلك مناهضا لسياسة الدولة.

إلا أن أكثر الأمثلة حدة ووضوحا على ممارسات هذه النخبة العلمانية كان الموقف من الحجاب، والذى كان يحتل موقع الصدارة فى العديد من المعارك السياسية التى دارت بين هذه النخبة «العلمانية» وبين حزب العدالة والتنمية «المحافظ اجتماعيا» وما يمثله من قاعدة اجتماعية. فقد كان محظورا على من ترتدى الحجاب مثلا دخول الجامعة والتسجيل بها، أو العمل فى أى من مؤسسات الدولة ودواوينها الحكومية. ولذلك كان من أولى الأزمات التى نشأت بين هذه النخبة التركية العلمانية وبين الرئيس جول؛ حين رفض قادة الجيش أداء التحية العسكرية له فى العرض العسكرى بمناسبة يوم الجيش نظرا لارتداء زوجته الحجاب. هذا بالإضافة إلى منع دخولها لقصر الرئاسة باعتبار أن ذلك يمثل انتهاكا لقيم ومبادئ «العلمانية» التى صاغها مؤسس الدولة كمال أتاتورك وتلتزم بها جميع مؤسسات الدولة. وقد كسب جول معركة دخول المحجبات القصر الجمهورى حين دعا زوجات الشهداء من الجنود للإفطار بالقصر فى شهر رمضان تكريما لهن. وكان معظمهن زوجات لجنود من القرى والأحياء الشعبية ويلتزمن بارتداء الحجاب، وهو الأمر الذى لم يستطع قادة الجيش الاعتراض عليه، فدخلت المحجبات زوجات الشهداء القصر الجمهورى وسقطت إحدى قلاع العلمانية الأتاتوركية.

وهكذا كان نجاح أردوغان وحزبه فى التخلص من الكثير من القيود وتغيير العديد من القوانين التى تتعارض مع الموروث الثقافى والدينى للكثير من المواطنين الأتراك عاملا مهما فى زيادة شعبيته، مضافا إلى التأييد الذى كان قد حصل عليه لنجاحه فى مضاعفة الدخل القومى لتركيا ثلاث مرات خلال السنوات العشر الأولى من حكمه، وتوسعه فى تقديم جميع أشكال الدعم والخدمات الاجتماعية، وهو ما انعكس إيجابيا على قاعدة عريضة من المواطنين. ولذلك أيضا استمرت شعبية أردوغان رغم ما ظهر من توجهات لديه نحو الديكتاتورية والقمع والاستئثار بالسلطة، ورغم ما أصاب الاقتصاد التركى من انتكاسات وأزمات فى الفترة الأخيرة، وهو ما كان من المفترض أن يشكل فرصة سانحة أمام المعارضة للفوز على أردوغان أو على الأقل الحد من نفوذه وشعبيته.
لكن ومع ما كان يمثله مرشح حزب الشعب الجمهورى، محرم إنجة، من تهديد جدى لأردوغان قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا أنه لم يستطع أن يخرج عن القاعدة الإنتخابية «الأتاتوركية العلمانية» لهذا الحزب فى المدن والمناطق الحضرية وخاصة المتواجدة منها فى المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. فرغم محاولته اختراق القاعدة الانتخابية لأردوغان بالعمل على طمأنتهم من بعض مواقف وممارسات حزبه كقوله إنه ليس ضد الحجاب أو حتى قيامه بالصلاة يوم الجمعة فى أحد الجوامع الشهيرة، إلا أن ذلك لم يشفع له. فقد ظل الخطاب السياسى للمعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهورى أسيرا لمبادئ «العلمانية الأتاتوركية»، ودون تطوير نفسه وبما يتلاءم مع التغييرات التى حدثت فى المجتمع نتيجة الإصلاحات التى أقدم عليها أردوغان وحزبه.

على الجانب الآخر، فقد استطاع أردوغان أن يعوض بعض التراجع فى شعبية حزبه (بلغ التراجع ٧٪ )، بالعمل على استمالة التيار القومى لصالحه. وبعد أن كان أردوغان يحرص على تقديم نفسه للغرب كنموذج للتيار المحافظ اجتماعيا بجذور إسلامية معتدلة، فقد بات يتبنى خطابا قوميا معاديا للغرب، مع تصوير نفسه على أنه الزعيم الوحيد القادر على مواجهة مؤامرات الغرب وخططه، وهو الأمر الذى يشى بمدى اعتماد أردوغان المتزايد على أصوات القوميين الأتراك، وإدراكه أن استمرار نجاحه بات مرهونا بالحصول على دعمهم. هذا التحالف بين المحافظين/ الإسلاميين من ناحية مع القوميين الأتراك من ناحية أخرى سيكون له تداعياته المنتظرة على الكثير من سياسات تركيا الداخلية والخارجية، وهذا حديث آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved