حديث المدينة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 2 سبتمبر 2015 - 7:25 ص بتوقيت القاهرة

حديث المدينة: صينيون يشتغلون ببيع الملابس الداخلية فى القاهرة وربما فى مدن مصرية أخرى. لا تتحدث المدينة عن مغزى الظاهرة وأبعادها الواسعة، ولكنها منذ أن تبنت عادتها الجديدة صارت تهتم بقشور الأشياء وبخاصة ما يلمع منها وما «يدوش». يتحدث الناس عن ذكر وأنثى، ذكر يعرض على الرجال عينات من الملابس الداخلية الرجالية وأنثى تعرض على النساء الملابس الداخلية. ويتدخل الخبثاء والمندسون بطلب الفتوى إن جاز شرعا اجتماع ملابس داخلية لرجل مع ملابس داخلية لامرأة فى حقيبة جلدية مغلقة. جاء أيضا على هامش الحديث، ولم يكن أتى فى صلب الظاهرة، إن عدد الصينيين فى مصر ربما تجاوز الثمانين ألفا. أهو رقم كبير أم صغير. لم نقابل إجماعا حول قيمة الرقم وأهميته، وقد لا نتوصل إلى هذه القيمة فى يوم قريب. هل ننسب الرقم إلى عدد سكان الصين الذى يتجاوز المليار وثلاثمائة مليون، أم ننسبه إلى عدد المواطنين الصينيين المنتشرين حول العالم من جنوب آسيا إلى غرب الأمريكيتين وحديثا فى أفريقيا ودول شرق أوروبا، وهم فى كل الأحوال بالملايين، أم يكون المعيار تخصصاتهم والأعمال التى يقومون بها فى المهجر ونسبتهم إلى أقرانهم من أهل البلد المضيف، أم نقيس الرقم باعتبار المدة التى قضاها المواطن الصينى فى المهجر، شهورا أم عقودا، وكم عدد من استقر وعدد من ظل عابرا..

***

كنا قبل سنوات كثيرة نراقب بفضول رجلا بشعر أبيض كثيف وبشرة بيضاء لفحتها الشمس ويرتدى بدلة كاملة وإن قديمة، بل عتيقة ولكن نظيفة. تحتها يطل ظهر منحنى بعض الشىء، وساقان رفيعتان تحملان حقيبة جلدية يتنقل معها بين قطارات الدلتا التى كانت تجوب بعض أنحاء ريف الوجه البحرى. كان الرجل يبدأ رحلته من الموسكى فى وسط القاهرة حيث قامت وتركزت تجارة المانيفاتورة. يأخذ من البيوت التجارية الشهيرة فى ذلك الوقت دستات من الملابس الداخلية. يجوب بها قرى فى الدلتا ويعود فى نهاية اليوم أو اليوم التالى بحقيبة فارغة يتركها أمانة فى وكالة الحاج صباح وإخوته ويعود فى الصباح ليجدها ممتلئة بدستات أخرى، ليبدأ رحلة أخرى فى ريف مصر. تلك كانت مهمة عدد غير قليل من رجال اليهود خلال النصف الأول من القرن الماضى.

***

مارس هذا النشاط فى سنوات أسبق بعض الشبان الشوام من لبنان وسوريا، نجح عدد منهم مكونا ثروة لا بأس بها ساهمت فى موجة تشييد مصانع منسوجات اشتهرت وذاع صيتها وبقيت مزدهرة حتى مستها يد التأميم.. كل هؤلاء الرجال الجائلون مارسوا مهنتهم مطمئنون إلى أن وثائق السفر التى يحملونها تضمن لهم حماية الدولة الأجنبية التى أصدرتها. خضعوا فى غالبيتهم العظمى لحماية نظام انتداب أو بقايا نظام الامتيازات الأجنبية. استطاعوا أيضا كسب محبة الناس بقدرتهم الفائقة على التعامل مع البسطاء من أبناء ريف مصر، وببراعتهم فى التعامل مع رجال الحكومة من خفير فى شرطة محلية إلى محصل ضرائب، ومع حريم العمد ومشايخ القرى.

***
بينما المدينة منشغلة بحديث الملابس الداخلية التى يجوب بها الصينيون شوارع القاهرة، وجدت نفسى وقد انشغلت بتقليب الذكريات. تذكرت بين ما تذكرت حديثا جرى فى مدينة سانتياجو بينى وبين صاحب بنك من أكبر بنوك شيلى فى ذلك الوقت. أصر الرجل على أن يحكى لى بكل فخر، ودموعه تجرى على خديه، قصة كفاحه منذ أن وصل إلى شاطئ بيرو على مركب فرنسى قادم من مارسيليا. بدأت الرحلة فى واقع الأمر من قرية بيت جالا الفلسطينية وكان لايزال شابا فى مقتبل العمر. حكى كيف أنه ما أن حط الرحال على شاطئ البيرو حتى أفرغ حقيبة سفره التى رافقته وزوجته فى رحلتيهما إلى أمريكا الجنوبية من محتوياتها غير الضرورية وعبأها ملابس داخلية وقمصانا رجالية. أما كيف حصل على الملابس الداخلية والقمصان، فهذه كانت ومازالت بالنسبة لى جوهر القصة. كان يمر على صفائح القمامة فى مدينة ليما ومدن أخرى فى بوليفيا وينادى ويطرق الأبواب ليجمع الملابس القديمة التى استغنى عنها أصحابها، ويعود فى الليل إلى كوخ استأجره وزوجته فى ضواحى ليما. هناك تتولى الزوجة ترقيع الملابس وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتقوم بنزع العلامة التجارية عن القطع التى يستحيل إصلاحها وتثبيتها بالقطع الجديدة أو التى جرى اصلاحها، وعند نهاية عملية الترقيع والتحسين والتنظيف توضع الملابس فى أكياس تبدو كالجديدة وتوضع الأكياس فى الحقيبة الجلدية ويبدأ الرجل الطواف فى القرى الجبلية حيث يعيش السكان الأصليون فيبيعهم الملابس الداخلية أو يقايضهم بما عندهم من حلى وجلود وفراء، ثم يعود إلى امرأته فى العاصمة وهى لم تغادر مكانها أمام ماكينة الخياطة وفى يدها إبرتها وخيطها.

قضيا سنوات الهجرة الأولى فى كد وشقاء. وبالتدريج تكونت ثروة بسيطة فتوسعت مهام الخياطة مما استدعى توظيف عمال، ثم استأجرا مكانا، ثم توسعا أكثر فاختارا مصنعا قديما للمنسوجات، ومنه إلى مصنع أكبر فأكبر، ثم اشتريا المصرف المجاور، ليتمكنا من إقراض التجار. توسعا أكثر عبر حدود ثلاث دول. وفى النهاية انتقلا إلى شيلى ليقيما امبراطورية مالية وصناعية لم يفتنى أن أزورها قلعة قلعة خلال رحلة المائة يوم التى قضيتها فى ذلك البلد الجميل.

***

لا أشك للحظة واحدة فى أن كل واحد من هؤلاء البائعين الصينيين الذين يجوبون الآن شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية يحلمون الحلم نفسه. سمعوا عن آلاف، بل ملايين، المهاجرين الصينيين الذين شيدوا إمبراطوريات مالية وتجارية وصناعية فى العالم بأسره، أكثر هؤلاء احتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم، وحافظوا على علاقاتهم الرسمية بحكومة بكين، فكانوا حقا الدرع الأمامية والمصدر الرئيسى لآلاف المشروعات الانتاجية المحلية التى قامت فى أنحاء الصين خلال الحكم الشيوعى. ثم جاءوا كمستثمرين كبار ليشتركوا فى بناء الصين الحديثة.

أتصور أن هؤلاء جميعا الذين يعدون بالملايين، ومنهم الباعة الجائلون فى شوارع ومدن أجنبية عديدة، سوف تتغير علاقاتهم بأهل البلاد التى يجولون فيها، وبحكومة بلادهم فى بكين. يدفعنى إلى هذا التصور حقيقة لا يمكن إنكارها وهى أن الصين لن تكون بعد اليوم دولة مثل بقية الدول. الصين خطت بالفعل الخطوة الأخيرة التى كانت تفصلها عن المكانة الإمبراطورية. إمبراطورية مترامية الأطراف والمصالح والنفوذ والقواعد الاستثمارية. لن ينظر المصرى العادى إلى بائع الملابس الداخلية التابع للإمبراطورية الأعظم كما كان ينظر إليه فى سنوات ما قبل الامبراطورية، وبالتأكيد سوف يتغير أسلوب البائع الصينى فى التعامل مع مواطنى الدول التى يتجول فى شوارعها وأسواقها. أراهم وقد استقروا فى محال خاصة بهم فى «مولات» صينية تقام على مساحات شاسعة وتوظف المئات بل الآلاف من الصينيين. أراهم وقد اكتست وجوههم بمعالم عظمة إمبراطورية، رأينا مثلها فى وجوه موظفى الإدارة البريطانية والفرنسية ورجال المصارف والمحال التجارية الأجنبية، بل رأيناها على وجوه عاملات البيع فى شيكوريل وشملا وعمر افندى خلال سنوات الإمبراطوريات التقليدية.

***
نصيب الصينيين فى حديث هذه المدينة وغيرها من المدن مرشح للزيادة، فالإمبراطورية تزحف الآن على جميع طرق الحرير وغير الحرير، لتكون أول امبراطورية فى التاريخ توسعت بفائض البشر والمال وفى القارات الخمس وفى وقت واحد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved