ماكياج الوجه.. فن وتشويق وتخريب وخداع وتحرر وإبداع

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 2 أكتوبر 2018 - 11:10 م بتوقيت القاهرة

كانت مجموعة من الرجال والنساء حضرت احتفالا فى منتجع سياحى وعادت لقضاء يوم فى القاهرة تعود بعده بكامل عددها إلى المنتجع لحضور عرس. بعد العرس تنقسم المجموعة إلى فريقين، فريق يتوجه بعد يومين إلى أسوان لحضور عرس آخر، وفريق يعود فورا إلى القاهرة ليقضى فيه يوما واحدا يستأنف بعده السفر إلى جزيرة من جزر اليونانا لم أعد أذكر اسمها لحضور عرس ثالث. مناسبة مهمة استدعت أن التقى بأعضاء الجماعة خلال رحلتهم الأولى إلى القاهرة بعد حضورهم الاحتفال المشهود فى المنتجع السياحى. وصلت فانقطع الحديث الدائر لنبدأ حديث المناسبة التى جمعتنا. استغرق حديث المناسبة حوالى الساعة وبعدها عاد أغلب الحاضرين إلى الحديث الذى انقطع بوصولى. فهمت على الفور أن الفساتين كانت موضوع الحديث الذى انقطع وأن هناك رغبة عارمة فى الاستمرار فى مناقشة هذه القضية، كما لو كان لكل حاضر من الحضور مصلحة خاصة فيها. حاولت لدقائق معدودة أن أجد فى الموضوع ما يستحق المشاركة فى النقاش أو على الأقل الاستماع بدون مشاركة، لم أجد. أما وأن الجلسة مستمرة لدواعى اللياقة والذوق كان لا بد أن أتدخل لتوجيه النقاش نحو أمور أخرى قد لا تكون أكثر إثارة من الفساتين ولكنها أصبحت فى الآونة الأخيرة محل كثير من الجدل والاهتمام. لم يعترض أحد، ومن غضب لم يكشف عن نفسه أو عن غضبه.
***
اعتذرت واعترفت. اعتذرت عن مقاطعتى حديث الفساتين فلست من خبرائها ولن أكون. ولى على كل حال موقف منها منذ رأيتها تتخلى ببساطة ودون قتال عن حقوقها لصالح البنطلون الجينز سليما كما كان عند إطلاقه أو ممزقا بل مهترئا فى مرحلته الراهنة. ثم اعترفت. منذ اللحظة التى عرفت فيها أننى سوف التقى بجماعة حضرت حفل المنتجع وأنا متلهف للاستماع إلى ملاحظات وآراء عن السلوكيات الجديدة فى مجتمع نخبة المشاهير. أنا أيضا ولأسباب عديدة مهتم مثلا بأحاديث الماكياج وصناعات التجميل بوجه عام. مهتم بشكل خاص بفهم تطور مفهوم الجمال عند المرأة المصرية وكذلك عند الرجل. لم أعد أخفى اقتناعى بأن السنوات الأخيرة شهدت، وتشهد، تغيرات هامة فى نظرتنا كمصريين إلى الجمال. أتحدث عن جمال الإنسان، ولكنى أتحدث أيضا عن جمال الأشياء والمدن والقرى والطبيعة نهرا كان أم صحراوات أم تلالا وجبالا وشواطئ وبحارا. نعم تغيرت النظرة، وأظن أن مفهومنا للجمال حتى المجرد تغير أو بصدد أن يتغير. الصغار فى عائلتى لا يرون الجمال كما عرفته. حتى الكبار من عمرى يقفون حيارى أمام نماذج جمال تحظى بالرضاء والتصفيق بينما بعض قلوبنا تنكفئ على ذاتها حسرة وانكسارا. قلت لهم أردت أن أسمع منكم وبينكم الشباب وأيضا الكبار، أسمع عن الجمال الذى تذوقتم هناك، عن مظاهره، عن سلوكياته، عن أدواته وآليات دفاعه وأخص منها بالذكر الماكياج، هذا الفن الذى ظل وفيا للإنسان، وبخاصة المرأة، منذ بدء الخليقة مرورا بعصور ازدهاره فى زمن الفراعنة وعصور اندحاره فى زمن الإغريق وأزمنة الظلام وانتهاء بيومنا هذا.
حكيت عن حب الإنسان للألوان. عشت بين شعوب كثيرة. كلها بدون استثناء تحب الألوان ولكن بعضها يحبها أكثر. تمنيت وأنا طفل أن أعيش بين الهنود الحمر، وقع هذا التمنى قبل أن أعرف أنهم أبيدوا على أيدى الحجاج البيض الذين وفدوا على أمريكا هربا من الظلم والقمع فى بلادهم. انبهرت بتلك المساحيق والألوان التى كانوا يصبغون بها وجوههم. ألوان ورسومات لمناسبات الحرب وأخرى للأعياد والصيد والأعراس. رأيت رسومات أخرى على وجوه الشبان الأفارقة المتسابقين بالرماح والعصى الخشبية للفوز بعروس فارت وصارت فى رأى رءوس القبيلة جاهزة للزواج. رأيت هنود آسيا وهم يقدسون الألوان حتى جعلوا لها عيدا يطلون فيه الآلهة بالألوان التى تفضلها. حتى نهرهم المقدس تتلون مياهه فى ذلك اليوم بألوان شتى. شعوب كثيرة عشت معها احتفالاتها الملونة. عشت مع البرازيليين يقضون الليالى يتلونون استعدادا ليوم الاحتفال الكبير. هناك وفى كل مكان ذهبت إليه كانت الوجوه هى التى تحظى بالنصيب الأكبر من التزويق، وكانت العيون والشفاه والخدود الأشد حظوة فى سباقات هذا الفن الرائع، فن التجميل. وإن أنسى فلن أنسى الساعات التى قضيتها أتأمل عيون نساء الفراعنة. نساء وفنانون أبدعوا فخلفوا على جدران معابدهم وغرف الأبدية رسومات بقيت شاهدا على عبقرية فذة وفن راق، لهما الفضل الأكيد فى وضع معايير للجمال تحكم وتتحكم إلى يومنا هذا.
***
فاتكم يا سادة وسيدات أن وراء نشأة هذا الفن ووراء جميع فترات تألقه وانتشاره موجات تمرد. تدخلت بهذه الكلمات صاحبة الدعوة، ثم أضافت قائلة «تعرفون أن الباحثين وجدوا علاقة مباشرة تربط بين قمع المرأة وإملاء شروط شكلها ومظهرها. المساحيق كانت دائما مكروهة فى عصور الظلام والإظلام. ولكن ما أن تتاح ثغرة ضوء إلا وأسرعت المرأة فى جرأة مشهودة لها تغير فى تفاصيل وجهها ولو للحظات تخلو فيها إلى مرآتها أو بين صاحباتها. فى كل مكان وفى كل زمان وجدت المرأة فرصة لتتحرر من قمع الرجال والكبار هرعت إلى المساحيق تتجمل بها وتحلم. كثيرون اعتبروا الماكياج طريقا نحو التعبير الحر عن النفس. تعرفون مثلا أن نساء نيويورك خرجن فى تظاهرة كبيرة فى عام 1912 من أجل الحصول على حق الانتخاب وقد وضعن أحمر شفاه زاعقا على شفاههن، تذكرون أيضا النساء المصريات وقد خرجن إلى ميدان التحرير فى الأيام الأولى للثورة وقد تزوقن بالألوان المناسبة».
***
تحفظت واحدة من الضيوف على القول بأن الماكياج فى نشأته وتطوره اعتمد دور التمرد على هيمنة الرجل أو المجتمع على المرأة. تحدثت طويلا عن المرأة الفرعونية التى بحسب رأيها أبدعت فى ممارسة فن الماكياج ولم يعرف عنها تعرضها لهيمنة قاسية من الرجل أو من الكهنة. بل إن دارسين للعصر الفرعونى شهدوا بأن ماكياج المرأة الفرعونية كان بالنسبة لهم دليل تمتعها باستقلال ذاتى ندر أن يوجد فى ذلك العصر أو العصور اللاحقة. خذوا مثلا الحال فى بلاد الإغريق حين كان الرجال يفرضون على المرأة وظائف لا يخرجن عنها، ومنها إدارة بيت الزوجية. رجال الإغريق، وبخاصة أعضاء النخبة السياسية الحاكمة، اعتقدوا أن جسد المرأة خطر يجب اتقاؤه، واعتبروا الماكياج عاملا يزيد فاعلية هذا الخطر.
***
طلب رجل التعليق فقال إنه كان دائما يريد أن يفهم السبب وراء هذا الاستثناء فى تعامل الرجال، وبخاصة رجال السياسة، مع المحظيات والخليلات والراقصات، كلهن على امتداد جميع العصور ونظم الحكم وفى ظل مختلف الأديان حصلن على حق الاستخدام الواسع للمساحيق والماكياج بشكل عام والظهور به فى الأماكن العامة. أضاف أنه لا يعرف الكثير عن ثقافة اليابان وموقع فتيات الجيشا فى هذه الثقافة، ولكنه كفنان كان دائما منبهرا بعبقريتهن فى التزويق ورسم الوجوه وفى كونهن نماذج جمال. قال أيضا إنه لاحظ أن أغلب نساء العالم يفضلن الأبيض لونا لبشرتهن. يفعلن ذلك فى شرق آسيا والشرق الأوسط وفى إفريقيا. وسأل لماذا لم يفلح اللون الأسمر فى أن يكون كاسحا كقاعدة للجمال. لقد فرض الغرب على شعوب العالم تقاليده وأفضلياته والغريب أنه نجح فى فرض لون البشرة السائدة فيه معيارا للجمال.
***
تحدث حاضرون عن الماكياج مستنكرين دوره المخادع. قالوا عنه إنه أداة كذب وتشويه للحقيقة ولا يجوز التمادى فى استخدامها للتغرير بالرجل «البسيط!». رد آخرون بينهم نساء تحمسن للدفاع عن الماكياج. قالت أفصحهن «دعونى أصرح أمام كل الرجال فى هذه الغرفة بأن الماكياج ما هو إلا «بيان نسائى» نعلن عن طريقه رأينا فى الأشياء. هو نوع من التمرد، وربما التخريب، إن شاء بعضكم استخدام هذه التسمية، وتعبير عن تمسكنا بالحرية. هو أيضا نوع من الخداع البرىء والكذب الأبيض نعترف بهذا ونتمنى أن تتفهموه أيها الرجال. الغريب أنكم تطالبوننا بوضع المساحيق وأحمر الخدين وأحمر الشفاه ونحن نتأهب لكم. لا تغضبون يوم العرس من الماكياج الذى يكلفنا ثروة كثيرات من متوسطى الحال لا يتحملنها ولكنك تغضبون عندما تكون الخديعة غير متقنة. موقفكم هذا يذكرنى بعبارة لبيكاسو أتى فيها على ذكر «الكذبة الصادقة» فى الفن بجميع أنواعه. تعرفون كما نعرف أن الماكياج فى نهاية الأمر ما هو إلا فن من هذه الفنون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved