العرب والغرب ونظام إقليمى جديد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 2 نوفمبر 2009 - 10:08 ص بتوقيت القاهرة

 
كنت أقرأ للمرة الثانية تقريرا صدر العام الماضى عن مجلس الاستخبارات القومى الأمريكى بعنوان «العالم سنة 2025» Global Trends 2025 عندما استوقفتنى ملاحظة أبداها واضعو التقرير،

جاء فيها أن النظام الدولى الذى أفرزته الحرب العالمية الثانية لم يتبق من معالمه الأصلية معلما واحدا يمكن أن يذكرنا أو يذكر الأجيال المقبلة بهذا النظام.

تأملت فى الملاحظة، وأنا متيقن من صحتها، ووجدت ذهنى يتجه إلى نظام آخر نشأ أيضا، مثل النظام الدولى، بعد الحرب العالمية الثانية، وكان بدوره ثمرة من ثمارها ونتيجة لانحسار نفوذ الدول الاستعمارية الأوروبية.
ترددت فى تبنى الملاحظة نفسها، رغم انطباقها على حال النظام الإقليمى العربى.

وأظن أنه كان يكمن وراء التردد علاقة شخصية ربطتنى ذات يوم بنشأة المفهوم ومحاولات تبرير صلاحيته لشرح التفاعلات القائمة وقتذاك بين الدول العربية بعضها بالبعض الآخر وكذلك بينها ودول الجوار الإقليمى وبينها بين العالم الخارجى، ولبحث إمكانية استشراف مستقبل الأمة العربية.

أفهم الآن دوافع بعض المحللين الأكاديميين والسياسيين فى الولايات المتحدة الذين مازالوا يحنون لأيام القطبية الثنائية حين كانت أمريكا تقتسم مع الاتحاد السوفييتى النفوذ والهيمنة، وأفهم دوافع بعض آخر لم يعترف للاتحاد السوفييتى بحقه فى الشراكة على القمة.

واستمر هذا البعض مع عدد لا بأس به من المفكرين فى أوروبا وخارجها يصرون على أن القرن العشرين، من أوله إلى آخره، كان قرنا أمريكيا، وما مرحلة القطبية الثنائية إلا انحرافا بسيطا فى خط مستقيم بدايته عند نهاية الحرب العالمية الأولى ونهايته، حسب أحسن الأمانى، مفتوحة.

نعرف الآن، وربما بما لا يدع مجالا للشك، أن النظام الدولى، كما عرفناه فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، انتهى وتجرى محاولات وتبذل جهود لصنع نظام آخر يحل محله، ونعرف أن عوامل معينة طرأت وتفاعلت فيما بينها لتعجل بهذه النهاية، بعضها حدث عن عمد وسبق إصرار وبعضها أثمرته تطورات وتغييرات تلقائية.

كان هدف صانعى السياسة فى واشنطن فى الثمانينيات التوصل إلى نظام دولى يختفى منه القطب الآخر، ولذلك شنوا بمساعدة دول حليفة حربا إرهابية شرسة ضد القوات السوفييتية فى أفغانستان،

وفى الوقت نفسه أعلنوا عن نيتهم تنفيذ خطة لوضع برنامج لحرب النجوم، وكانت الخطة تهدف بدون مواربة أو تعميم إلى إنهاك اقتصاد الاتحاد السوفييتى عن طريق دفعه للدخول فى سباق تسلح فضائى ليحتفظ بمكانته قطبا دوليا مشاركا.

نقول الآن، إن حربا دينية ضد السوفييت فى أفغانستان وسباق تسلح فى برنامج حرب النجوم كانا كافيين لتحقق لأمريكا ما سعت إليه على امتداد قرن كامل، وهو إقامة نظام دولى يقوم على قطبية أحادية. ولكن للتاريخ حسابات أخرى.

إذ إن أمريكا حين استهدفت إضعاف الاتحاد السوفييتى عمدت إلى دعم اقتصادات أوروبا الغربية والتزمت حماية أمنها فوفرت على دولها ميزانيات طائلة وجهتها للتنمية فى التقدم والتكنولوجيا ورفع مستوى الكفاءة البشرية والاقتصادية.

وحين جاءت لحظة إعلان النظام أحادى القطبية على لسان الرئيس بوش الأب، كانت أوروبا الغربية قد صارت قوة اقتصادية عملاقة وعائقا معنويا وماديا ضد قيام نظام أحادى القطبية.

كان بين أهداف الحرب ضد الإرهاب، التى شنها بوش الابن، الحيلولة دون ممارسة أوروبا لحقها الطبيعى فى المشاركة فى القيادة الدولية معتمدة على انطلاقتها الاقتصادية ودرجة اندماجها الاجتماعى والسياسى. وقد تابعنا جهود إدارة بوش، لاستعادة سيطرة أمريكا وهيمنتها على أوروبا وتصاعد الخلافات بين الحلفاء بسبب ذلك، الواضح الآن أنه كان يمكن أن تفلح أمريكا فى الاستفادة لمدة أطول من «اللحظة الأحادية» التى أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتى، لو لم تكن الصين قد خرجت بإمكانات مهمة إلى الساحة الدولية. فبخروج الصين على النحو الذى خرجت به استعادت أوروبا بعض الزخم لاستئناف دور أو جانب أساسى من دور كانت تلعبه فى الساحة الدولية قبل أن يتألق النجم الأمريكى.

نستطيع أن نقرر أن النظام الإقليمى العربى، مثله مثل النظام الدولى، قد تغير تغيرا جوهريا، وان كنا لا نستطيع أن نقرر فى هذه المرحلة من مراحل تطوره أنه لم يتبق معلم من معالمه قائما. إذ إن بعض معالمه مازال قائما لأسباب معروفة أغلبها يتعلق بخصوصية هذا الإقليم. من هذه الأسباب أو فى مقدمتها العامل الثقافى وعامل اللغة.

تغير النظام، ولعله بدأ بالفعل يخطو خطوات جادة نحو الانصهار فى نظام آخر، يجرى هذا الانصهار بقرارات فردية من الدول العربية، التى اختارت أولا الانفكاك عنه والدخول فى علاقات ثنائية مع تكتلات دولية وإقليمية أخرى، ثم هى تختار الآن المشاركة فعليا فى بناء نظام إقليمى غير عربى.

ترددت أنظمة عربية فى الاندماج فى نظام إقليمى شرق أوسطى، لأن الذين طرحوه على بساط البحث لم يكونوا بالذكاء الكافى، كان غرضهم «سحق» مضمون متراكم فى الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة يرفض ،بين ما يرفض، الاشتراك مع إسرائيل فى منظومة إقليمية واحدة.

جاء الغرب ملوحا ثم مهددا ورفض أغلب الدول العربية المشروع الشرق أوسطى. فى ذلك الحين لم يكن الغرب قد قام بواجب تقديم تركيا فى صورة أحسن، ولم يكن مستعدا لقبول إيران كما هى وبشروطها عضوا فى هذه المنظومة.


خلال هذه الفترة، فترة الضغط لتمرير عدد من مشرعوعات إقليمية شرق أوسطية، كانت تتغير وبسرعة مذهلة مواقع القوة والنفوذ داخل النظام العربى، وتغيرت وبشكل جذرى قواعد القيادة والتوجيه فى النظام، وأقول اختلت أولا قبل أن تتغير وتفقد القيادة استقرارها النسبى وتستعص على إقامة «حلف أو محور قيادة» كالعهد بها فى مراحل متعددة.

من ناحية ثالثة، كانت العناصر «فوق القومية» و«فوق الدولة» و«فوق الإقليم» تزداد قوة ونفوذا فى توجيه سياسات دول المنطقة، وفى الوقت نفسه كانت تزداد نفوذا وقوة العناصر تحت الدولة كالقبلية والطائفية والعائلات الممتدة، هذه العناصر مجتمعة دعمت عملية انفكاك الدولة عن نظامها الإقليمى العربى،

وفتحت الباب واسعا لرياح عاصفة هبت من جميع الاتجاهات وأطاحت بكثير مما بدا فى حينه مستقرا، وأثارت هياج الأقليات والمتضررين من انحسار القيم، قومية كانت أم تنويرية أم نهضوية أم ثقافية.

فى ظل هذا الانفراط أو بسببه لم يكن هناك بد من أن يبحث «القرار» عن موقع جديد يتكيف معه ويصدر منه، ومع كل عمل إرهابى أو استيطانى أو قهرى تمارسه إسرائيل، كانت خطى القرار تتسارع بعيدا عن قلب النظام العربى بحثا عن مقر جديد خارج الإقليم ولكن ليس بعيدا عنه، ليس فى الغرب وليس فى أقصى الشرق، مقر لا يشترط أن تكون إسرائيل بعنصريتها المتوحشة شريكة فى صنع القرار.

ولم تمض مدة طويلة إلا وكانت تركيا تستعد لممارسة خصومات طارئة مع إسرائيل وكانت إيران تتطاول وتتجاسر على أمن إسرائيل وحقها فى الوجود وكانت الدولتان تجتمعان فى طهران، ليعلن منها أردوجان أن تركيا وإيران معا يمثلان «محور الاستقرار الإقليمى فى المنطقة» بعد أن تأكد لهما «فشل اللاعبين الدوليين فى تحقيق السلام العالمى»، ومن ناحية أخرى قال لاريجانى إنه « لا يمكن إملاء الحلول لمشكلات المنطقة من خارجها».

أعتقد أن تبادل هذا النوع من التصريحات فى ظل السياق الراهن فى المنطقة يحمل فى طياته شبهة الإعلان عن يأس الطرفين التركى والإيرانى من عدم قدرة الدول الفاعلة فى النظام العربى على حماية الاستقرار الإقليمى، وعن حاجة شعوب الإقليم من العرب وغير العرب إلى قيادة جديدة، وأن تكون غير عربية.

بمعنى آخر، لو صح هذا التحليل يكون قد تأكد أن تغيرا جذريا حدث فى النظام الإقليمى العربى أشبه ما يكون بالتغير الجذرى الذى حدث للنظام الدولى. لم يتبق لهم فى الغرب إلا انكشاف شكل النظام الدولى الجديد، وهل سيكون كما تنبأ تقرير المجلس القومى للاستخبارات الأمريكية، نظاما يتطور حتى عام 2025 فى اتجاه تولى الشرق القيادة على حساب الغرب.

وفى منطقتنا لا يتبقى لنا إلا انكشاف شكل النظام الإقليمى الجديد؛ هل سيكون كما يترشح من تصريحات القادة الأتراك والإيرانيين ومن ممارساتهم السياسية والإستراتيجية نظاما يتطور فى اتجاه نظام إقليمى متعدد القوميات تقوده أنظمة قومية بشعارات إسلامية من مواقع بعيدة عن منطقة القلب العربى؟

أتصور أن حكومات عربية متعددة منشغلة هذه الأيام بإعادة تقويم سياساتها الخارجية على ضوء التفاهمات التركية ــ الإيرانية الجديدة والتزام قيادتى الدولتين المحافظة على الاستقرار الإقليمى. ليس خافيا أن هذا الالتزام يعنى فى حقيقته قيدا على حرية إرادة الدول العربية فى عقد التحالفات فيما بينها وبينها وبين دول من خارج الإقليم.

يعنى أيضا أن الغرب سيجد نفسه مجبرا على التعامل مع وضع فى الشرق الأوسط يؤثر بشكل جوهرى على مصالحه وأساليب تعامله العتيقة مع أنظمة الحكم العربية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved