استدعاء الدور المصرى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 2 نوفمبر 2015 - 9:55 ص بتوقيت القاهرة

يصعب الادعاء أن مصر استعادت دورها على نحو يؤثر بعمق فى إعادة التوازن إلى الإقليم.
خلل التوازن أفضى إلى ما وصل إليه العالم العربى من تدهور مرعب.
هناك فارق جوهرى بين ترميم السياسة الخارجية وبناء سياسة جديدة.
الأول ضرورة التقاط أنفاس وسد ثغرات هددت تحولات (٣٠) يونيو.
والثانى موضوع رؤية وصراع على القوة والنفوذ والمستقبل.
فى ترميم ما تهدم انفتحت السياسة المصرية على أفريقيا بصورة ساعدت على عودتها بسرعة نسبية إلى أنشطة الاتحاد الأفريقى بعدما تعرضت للتجميد.
غير أن ذلك لا يعنى فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الذى أسسته ومع القارة التى قادت حركة تحريرها مطلع الستينيات.
بحسب دبلوماسيين تولوا الملف الأفريقى فى الخارجية المصرية فإن الأقوال أكثر من الأفعال.
بمعنى آخر لا توجد حتى الآن سياسة أفريقية شبه متماسكة تنفتح على شواغل القارة وقضاياها ولا تلخصها فى أزمة سد النهضة مع إثيوبيا.
وفى ترميم ما تهدم انفتحت على مراكز دولية فاعلة ومؤثرة مثل روسيا والصين والهند دون أن تؤسس استراتيجية جديدة ورؤية مختلفة.
لا يصح أن تكون هناك قطيعة مع الولايات المتحدة غير أن الحديث المتكرر عن حوارات استراتيجية معها يعنى أنه ليس هناك أدنى مراجعة حقيقية لملف العلاقات الخارجية يتجاوز متطلبات الترميم.
بنفس المنطق انفتحت السياسة المصرية ــ بقدر ما تستطيع ــ على عالمها العربى بأزماته وبراكينه ومخاوفه وآماله أن تعود مجددا للعب أدوارها.
غير أن هذه مسألة ليست سهلة.
فالعالم العربى تغير بقدر ما تغيرت مصر.
فى عام (١٩٧٩) انسحبت من الصراع العربى ــ الإسرائيلى بتوقيع معاهدة السلام.
بنفس العام دخلت إيران إلى الإقليم بقوة دفع ثورتها الإسلامية وخطابها الجديد فى القضية الفلسطينية.
كانت تلك اللحظة بداية الخلل الفادح فى توازنات المنطقة.
وفى عام (٢٠٠٣) احتلت بغداد وانكشف العالم العربى بالكامل عند بوابته الشرقية.
حدث الانكسار الثانى، واتسع الفراغ الاستراتيجى فى الإقليم.
التاريخ لا يعرف الفراغ.
تقدمت إيران وتركيا لملء الفراغ.
إيران بقوة مشروعها الإقليمى، الذى تمدد بأكثر من طاقتها، وتركيا بقوة نموذجها الاقتصادى والسياسى قبل أن يتبدد إلهامه.
استدعاء الدور المصرى يعنى بالضبط البحث عن توازن يفتقده الإقليم بقسوة.
الحوادث العاصفة تستدعى حضورا مصريا على مسارحه فى لحظة تقرير مصائر.
هناك طبخات محتملة لتسويات وصفقات كبرى، تبدأ من سوريا لكنها لا تتوقف عندها.
تفكيك العقدة السورية قد يفضى إلى حلحلة أزمات مستعصية أخرى من العراق الذى يعانى صراعاته المذهبية وحروبه مع «داعش»، إلى اليمن الذى يبحث عن تسوية سياسية وفق القرار الأممى ومخرجات حواره الوطنى المعطلة، إلى لبنان الذى تكاد مؤسساته تتقوض داخلا إلى المجهول.
فى كل الملفات الدور المصرى مطلوب ومستدعى.
إذا كان هناك حوار عربى ــ إيرانى محتمل، فالدور المصرى لا يمكن الاستغناء عنه.
إيران تطلب الحوار الدبلوماسى مع مصر وتُلح عليه.
هذه معلومات مؤكدة.
ومصر محامٍ مؤتمن عن الخليج.
وهذه حقيقة ثابتة.
المعضلة الحقيقية أن الأطراف العربية لا تتوافق بوضوح على استراتيجية واحدة فى إدارة الأزمة السورية.
بعضها أقرب إلى أنقرة وبعضها الآخر أقرب إلى طهران.
الروس يطلبون حضورا مصريا، والأمريكيون لا يتحمسون ولا يعارضون.
تركيا لا تملك القدرة على التحفظ، وإيران تراها فرصة للانفتاح الدبلوماسى العلنى مع الدولة العربية الأكبر.
وسط الحسابات المتناقضة تغيب أى رؤية عربية مشتركة على قدر من الوضوح.
اللقاءات الودية لا تغنى عن السياسات الصلبة.
غياب السياسات الصلبة أزمة حقيقية تعترض أى دور مصرى محتمل.
لا سياسات مؤثرة بلا رؤية للأمن القومى والمصالح الاستراتيجية العليا.
فى بلد عريق مثل مصر لا أحد يخترع نظريات الأمن القومى ولا مصادر التهديد ولا دوائر الحركة.
قد تنضج الأفكار من حقبة إلى أخرى، غير أنها لا تنشأ من عدم ولا تؤسس على فراغ.
مشكلة مصر أنها امتلكت فى الستينيات مشروعا قوميا للتغيير انقلبت عليه العقود التالية ومشت فوقه خطوطه الرئيسية بأستيكة غليظة.
لا شىء من التراكم ولا شىء بقى على حاله فى مجمل السياسات.
جرى الانقلاب على قضية العروبة والتنكر لقضايا التحرير الوطنى ولأى معنى لموقف مستقل.
باتت التبعية الاستراتيجية عنوانا أولا للسياسة المصرية التى فقدت احترامها فى محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
وبات الانكفاء على الذات والانعزال عن العالم العربى وصداعه عنوانا ثانيا.
السياسات الجديدة أفضت إلى التهميش شبه الكامل.
بقدر ما تتحرر الدبلوماسية المصرية من أى قيود تكبل حركتها فإنها تكتسب احترامها.
بلا مراجعة للتاريخ لا أمل فى المستقبل.
وبلا تحرر من القيود لا أدوار حقيقية تؤثر وتغير فى معادلات الإقليم.
للتاريخ موارده فى العلاقات الإقليمية والدولية لكن الدول لا تعرف غير الحقائق التى على الأرض والمصالح التى تراها.
التجارب المشتركة القديمة تضفى شيئا من الدفء على العلاقات، تفتح الأبواب وتساعد على التفاهمات.
من الضرورى دائما تذكر أن العالم قد تغير، وأن مصر فى أوضاعها الجديدة ليست مصر الستينيات.
الأهم من ذلك كله أن تكون هناك رؤية واحدة تدمج ما هو داخلى ضاغط مع ما هو إقليمى ملح.
بقدر ما يكون الداخل مستقرا فى أمنه ومطمئنا على اقتصاده فإن بوسعه أن يتقدم بثقة إلى محيطه.
ورغم أى أزمات داخلية صعبة فإن المصير المصرى يتحدد فى إقليمه.
يستحيل لعب أدوار إقليمية كبرى دون قاعدة انطلاق فى الداخل تتوافر فيها عناصر المناعة من احترام للقواعد الديمقراطية وعافية فى الاقتصاد والتزام بالعدالة الاجتماعية ودحر للإرهاب.
فى العلاقة بين الداخلى والإقليمى تتبدى مشكلة الانشغال السياسى والإعلامى بكل ما هو محلى على حساب كل ما هو خارجى.
الاستغراق فى المحلية معضلة.
تآكل المعارف بالعالم العربى معضلة أخرى.
اختفت تقريبا طبقة الخبراء المتخصصين فى الشئون العربية الذين يعرفون خفايا ما يجرى فى الكواليس وعلى اتصال مع صناع الأحداث.
صفحات الشئون العربية بالصحف المصرية يكاد ينقرض تأثيرها، والفضائيات لا تولى أى عناية واجبة.
على النحو ذاته فإن معرفة العالم تتضاءل بصورة مخيفة، والانشغال بها يبدو أمرا مقصورا على دائرة ضيقة من الخبراء والباحثين.
تلك المأساة تؤثر بالسلب على أى احتمال لاستعادة عافية الدور فى أى مدى منظور.
لا دور بلا معارف ورؤية وانشغال.
فى أى حساب، الانكفاء جهل، والانعزال مستحيل، وتعطيل الدور جريمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved