رائدة طه

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 2 نوفمبر 2017 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

كأن هذه السيدة الخمسينية عفريتا تلبسنى فلم أعد أستطيع منه فكاكا، لم أكن أعرف عنها شيئا حتى أسبوع مضى وإذا بى حين أسمع عنها أطاردها حيثما كانت، أبحث عن حواراتها وأخبارها، أقرأ عن مسرحياتها وأشاهد بعضا من مقاطعها على اليوتيوب فأهتم بها أكثر وأتعلق بها أكثر وأكثر، وعندما تكتمل صورتها فى داخلى آخذها معى إلى الورق وأكتب عنها على طريقتى ومن يدرى لعلنا يوما نلتقى.

***

رائدة هى كبرى بنات الشهيد الفلسطينى على طه، اختار الأب لبناته أسماء سهير وميس ولينا واتخذ لها هى اسم رائدة و كأنه كان يتنبأ. أما هو نفسه فارتبط اسمه باختطاف طائرة كانت ذاهبة من بلجيكا إلى إسرائيل عام ١٩٧٢ قاصدا مبادلة ركاب الطائرة بمائة أسير فى السجون الإسرائيلية. دخل رجال الصليب الأحمر إلى الطائرة التى حطّت فى مطار اللد، تخفّى بينهم إيهود باراك وبنيامين نتنياهو بدعوى إيصال الطعام للركاب وصوّبا طلقات رشاشاتهما صوب الفدائيين، استُشهِد على طه ورفيقه عبدالعزيز الأطرش أما المناضلتان تيريزا هلسة وريما عيسى فقد وقعتا فى الأسر.

***

عندما فقدت ابنة السابعة أبيها لم تكن تعلم ماذا يعنى أنه صار شهيدا، حملت سؤالها وصورة والدها فى الجريدة وذهبت إلى الأستاذ حسن مدير مدرسة النجاح الوطنية بمخيم برج البراجنة وطرحت عليه السؤال « شو يعنى الشهيد البطل ؟« فرد بأنه من يموت فداء أكثر شيء يحبه فى الدنيا، وعادت تسأل مجددا « يعنى أبويا بيحب فلسطين أكتر منى ؟«. هذا السؤال الأخير لم يفارقها أبدا بل ظل يطاردها مع كل موقف قاس عايشته بعد غياب الأب، عندما صارت أرملة الشهيد مطمعا لبعض الرفاق واجهت رائدة السؤال، وعندما تعرضت رائدة نفسها لمحاولة اغتصاب من أحد هؤلاء الرفاق لطمها بعنف السؤال، وعندما سمح الآخرون لأنفسهم بالتطفل على أسرة الشهيد لأنها بغير رجل عاودها السؤال.. عندما وعندما.. وفى لحظة معينة قررت رائدة أن تبوح وتحكى عن الشهيد ليس كبطل ولكن كزوج وكأب. فى البدء أخرجت رائدة بعض ما بداخلها فى كتاب أسمته «علي«، ثم مثلت مسرحية كتبت لها السيناريو وكانت بعنوان« ألاقى زيك فين يا علي«، ثم تلتها بمسرحية «٣٦ شارع عباس ــحيفا « مازالت تعرض على مسرح المدينة بشارع الحمرا ببيروت وحتى منتصف نوفمبر.

***

المسرحيتان من نوع المنودراما الذى يجسد فيه ممثل واحد كل شخصيات العمل وتساعد مجموعة من المؤثرات السمعية ــ البصرية على إقناع المشاهد بأنه بصدد فريق عمل متكامل. تحكى المسرحية الأولى عن التجربة الشخصية لرائدة طه، أما المسرحية الثانية فتحكى عن أسرتين فلسطينيتين لتنتقل بذلك رائدة من الخاص إلى العام. وهكذا تبدأ مسرحية « ألاقى زيك فين يا علي« بالمشهد الأكثر إيلاما لرائدة.. مشهد محاولة الاغتصاب التى تعرضت لها وهى التى ضحى والدها بروحه فداء للوطن. تجوب المسرح من الركن إلى الركن، تصرخ.. تبكى وتستحضر عليا. ترك الأب من خلفه مجموعة من النسوة لكنهن أثبتن أنهن يلقن به تماما.. نعم يعاتبنه لأنه تركهن وذهب لكنهن لم يخذلنه أبدا. ها هى الزوجة فتحية تحمل همّ أربع فتيات يتيمات صغراهن لم تتم عامها الأول. وها هى العمة سهيلة تحرر جثمان أخيها الشهيد من قبضة الاحتلال وتلفه فى علم فلسطين المختبئ فى زجاجة عطر.. كان عليا يريد أن يُدفَن فى القدس لكن سلطة الاحتلال أبت فامتزجت رفاته بتراب الخليل.. لم يصدق أحد أن بإمكان هذه المرأة البسيطة الأمية أن تخرج جثمان أخيها من الثلاجة بعد عامين قضاهما فيها.. لكنها فعلتها وأذهبت البرد عن أوصاله... هل قلت أوصاله ؟ وها هى عمتها عبلة الحامل فى شهرها الثانى تُهّرِب حقيبة متفجرات عبر جسر الأردن فتقع فى الأسر حينا ثم تُرحّل إلى الأردن. يا رائدة: كيف بالله عليك كان بإمكان هكذا أسرة ألا يخرج منها شهيد ؟

***

أما مسرحية « ٣٦ شارع عباس ــ حيفا « فهى تحكى عن أسرتين فلسطينيتين، الأولى أسرة أبو غيدا التى طردها الاحتلال من بيتها فى حيفا عام ١٩٤٨ فتوزع أفرادها على ٢٦ دولة حول العالم، والثانية أسرة الرافع التى اشترت هذا البيت بعد عشرين عاما لكنها لم تشعر قط أنه بيتها فلا هى تعلق لوحة ولا تغير ديكورا ولا تفتح بابا جديدا أو نافذة وتروح تبحث عن ملاك البيت فى كل مكان. هنا المقارنة واضحة بين احتلال يطرد ويصادر ويغتصب الحق وبين فلسطينيين لا يعتبرون البيت المهجور إرثا مستحقا وإن صانوه وعمّروه ورطبوا هواء حيفا بأنفاس عربية.

***

يا أيتها الرائدة التى لا تعرفنى كم أرجو أن أراك تمثلين وترقصين على أى من مسارح مصر كما فعلت على مسارح لبنان وتونس والكويت وعلى مسرح حيفا فى فلسطين الغالية، لك هنا جمهورك ولَك محبوك.. ولعلى أبيك نصيب كبير فى قلوبنا فتعالى إلينا ودعينا نفتش سويا فى ذكراه عن كل شهدائنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved