الحاجة إلى مصر تتصاعد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 2 ديسمبر 2010 - 10:44 ص بتوقيت القاهرة

 لا إسقاط فى هذا المقال ولا نية متعمدة لإعلاء شأن آخرين والتقليل من جهد المسئولين المصريين. يخطئ من يكتب بأسلوب الإسقاط فشئون مصر لم تعد تتحمل رفاهة الجدل حول تفاهات إعلامية القصد منها تتفيه العقل العام وإشغال الناس بمسائل جانبية. موضوع مقالى هو السياسة الخارجية المصرية.

ومناسبة مقالى هى زيارة السيد أردوجان رئيس الوزراء التركى إلى لبنان.

تمنيت لو قامت الصحف المصرية بتغطية زيارة أردوجان للبنان بشكل أوسع، ومناقشة أهدافها وتداعياتها بموضوعية وتحليلها تحليلا نقديا. ولكن يبدو أن الخوف من تهمة الإسقاط حرمت مستهلكى أجهزة الإعلام المصرى، وبخاصة المتخصصين فى الشئون العربية والإقليمية، من الإطلاع على تفاصيل زيارة مسئول تركى كبير إلى لبنان كانت فى حد ذاتها تعبيرا واضحا عن مرحلة تحول جوهرى فى نمط تفاعلات المنطقة العربية، وهى المنطقة التى يفترض أننا لا نزال نشكل جزءا رئيسا فيها، وكنا إلى عهد قريب نلعب الدور الأهم فى تحديد توجهاتها، ويبدو أننا نحاول العودة من جديد إلى مكان فيها ومكانة ولا أقول العودة إلى ما كان عليه حالنا ومكاننا ومكانتنا.

لن أسرد فى هذا المقال تفاصيل المقابلات أو التصريحات أو الخطابات التى ازدحمت بها الزيارة، ولكنى اخترت انطباعات تكونت نتيجة متابعة سريعة ومن بعيد للزيارة. كنت واعيا من البداية بأن الكتابة عن زيارة أردوجان للبنان ستتأثر حتما بالأفكار التى تلاطمت أثناء وفى أعقاب زيارة قام بها رئيس دولة إقليمية أخرى قبل زيارة أردوجان بأيام قليلة، وهى زيارة الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد إلى لبنان.


أكتب عن زيارة قام بها رئيس وزراء دولة إقليمية للبنان المأزوم داخليا وعربيا وإقليميا فى أعقاب زيارة رئيس دولة إقليمية أخرى خلال مدة لا تتجاوز الأسبوعين، ولكن ما يشغل ذهنى حقيقة هو أن لا دولة عربية واحدة اهتمت كما اهتمت إيران وتركيا فأرسلت رئيسا من عندها أو ملكا أو أميرا أو رئيس وزراء.

يعرف القادة العرب أن لبنان مأزوم فعلا، وأن شرارات أزمة إذا اشتعلت قد تتطاير فى اتجاهات غير محسوبة فتصيب البعيد قبل أن تصيب القريب. أتوقف هنا لأسأل الأصدقاء المتابعين لتطور أمور مصر عن تصورهم لرأى المسئولين عن صنع سياسة مصر الخارجية فى هاتين الزيارتين، وكيف ينظرون إلى المسألة اللبنانية برمتها. ولا أخفى خشيتى أن تأتى الإجابة، أو هكذا تبدو لى فى موقعى كمراقب ومتابع، على النحو التالى.
يخلف المسئولون المصريون عن السياسة الخارجية والمعلقين الإعلاميين الدائرين فى فلكهم الانطباع بأنهم يتصرفون حيال لبنان والعراق وربما السودان من قواعد ومواقع متباينة.

تارة يتصرفون على قاعدة أن مصر طرف دولى وبخاصة عندما تتحدث عن لبنان نيابة عن الأوروبيين والأمريكيين أو عندما تقرر أن تتماهى معهم. وتارة تكون طرفا إقليميا وبخاصة عندما تزداد علاقاتها العربية احتقانا أو عندما تخشى على صلحها مع إسرائيل من شرارات أزمات العرب. وتارة تلعب دور الطرف العربى ولكن بغير اكتراث كبير وهو ما يحدث عادة وبالضرورة فى المحادثات الثنائية مع بعض القادة العرب أو فى كواليس الجامعة العربية.

نظريا نعرف أنه لا يوجد فى مبادئ إدارة الدولة لعلاقاتها الخارجية ما يمنعها من أن تنفذ سياساتها الخارجية باستخدام مستويات ثلاثة: مستوى النظام الدولى بمعنى مستوى علاقاتها بالدول العظمى والكبرى وبالمؤسسات الدولية والشركات العالمية عابرة الجنسيات والشخصيات المعروفة بنفوذها وقوة تأثيرها، ومستوى النظام الإقليمى أو النظم الإقليمية التى تعتبر نفسها عضوا فيها، ومستوى العلاقات الثنائية مع مختلف دول العالم باعتبارها وحدات أو لاعبين منفردين. مفيد جدا أن تكون دبلوماسية الدولة كفؤة للتعامل مع المستويات جميعها وأن يكون لديها الدبلوماسيون المتخصصون فى التعامل مع كل مستوى من هذه المستويات.


ولكن وفى كل الأحوال يكاد يكون فى حكم المستحيل أن تنفذ دولة سياسة خارجية متميزة إلا إذا كانت قاعدة عملها الإقليمى قوية وراسخة. وفى هذه الحالة ليس شرطا أن تكون الدولة عظمى أم صغرى. إن ما تحاول الصين تحقيقه على صعيد السياسة الخارجية يبدأ فى الكوريتين وفيتنام وغيرها من دول شبه جزيرة الهند الصينية وتايوان واليابان ودول وسط آسيا ونيبال وبورما. عرف المسئولون فى الصين منذ عصور المملكة الوسطى أنه بدون نفوذ قوى فى المناطق الواقعة خلف حدودها فلن تنعم الصين بالسلام والطمأنينة.

نعرف الآن وبخاصة خلال الشهور الأخيرة أن الولايات المتحدة تعرف ما يعرفه القادة الصينيون من خلال تجارب القرون وتوصلت كما سبق أن فعلت مع الاتحاد السوفييتى إلى أن أى محاولة أمريكية أو من أية جهة لإنهاك الصين وتعطيل مسيرة نهضتها إنما يجب أن تبدأ فى الدول الأقرب جغرافيا وثقافيا وسياسيا.


سمعت، أو ربما قرأت، لمن يقول إن الفرقاء اللبنانيين قد ينصتون باهتمام إلى نصائح واقتراحات الرئيس ساركوزى الفرنسى ورئيسا الوزراء برلسكونى الإيطالى والمستشارة السيدة أنجيلا ميركل الألمانية والسيد فيلتمان الأمريكى، وكل هؤلاء استمعوا قبل أيام باهتمام إلى نصائح واقتراحات الرئيس أحمدى نجاد الإيرانى ورئيس الوزراء أردوجان التركى، فهل يستمعون باهتمام وينصتون إلى اقتراحات ونصائح الرئيس مبارك المصرى إذا ذهب إليهم هناك؟.

لا أتردد عند الإجابة بنعم. نعم سيستمعون إلى ما يقول بكل الاهتمام والشغف بشرط أن يكون قادما إليهم كرئيس لمصر طرفا عربيا. وسيستمعون إليه باهتمام وشغف أقل قليلا لو كان قادما كرئيس لمصر طرفا إقليميا، وأظن أنهم وإن استقبلوه بكل التقدير والحرارة التى يستحقها رئيس الشقيقة مصر، فلن يستقبلوا اقتراحاته ونصائحه باهتمام إذا قدم نفسه رئيسا لمصر طرفا دوليا فى الأزمة اللبنانية أو فى أى قضية فى أزمة الشرق الأوسط.

مشكلة دور مصر حسب ما يردده سياسيون ومعلقون عرب فى لقاءاتنا الخاصة هى أن مصر ابتعدت سياسيا وتجاريا وثقافيا وعاطفيا إلى ما وراء الفضاء العربى، أعرف سياسيين ومفكرين لبنانيين اكتسبوا خلال العقود الأخيرة عادة التعامل مع مصر كطرف إقليمى وأحيانا كطرف دولى. مصر أعطت الانطباع، ولعله غير مقصود، بأنها منشغلة بأمور أخرى أهم كثيرا لمصلحتها الأمنية من قضايا العرب وبخاصة قضية لبنان. واللافت للانتباه أن المسئولين المصريين لا يبذلون جهدا مناسبا أو مقنعا لإزالة هذا الانطباع. ذات الانطباع لمسته لدى نخب ثقافية وسياسية فى دول عربية أخرى، فى مقدمتها السودان والعراق وسوريا ودول فى المغرب العربى.

بات واضحا أن اللبنانيين وعربا آخرين إذا شعروا بحاجة ضرورية وعاجلة لطرف دولى يتحدثون معه ويسألون النصيحة أو الدعم فلن يطلبوا مصر، وإذا شعروا بحاجة ضرورية وعاجلة لطرف إقليمى له نفوذ أو شعبية فى لبنان يتحدثون معه ويتلقون منه اقتراحات ونصائح أو يتحالفون معه أو ضده فلديهم طرفان هما إيران وتركيا وكلاهما شعر بالحاجة إليه ولبى الدعوة وكلاهما يعبر حقيقة عن مرحلة حيوية وخطيرة فى العلاقة بين الجوار الإقليمى للنظام العربى والنظام الدولى.

مطلوب من مصر، أن تقول على لسان رئيسها وليس أى مسئول آخر، كلاما كبيرا. والكلام الكبير فى السياسة الرشيدة ليس عنتريات.. يعنى مثلا أن تصدر من القاهرة الدعوة إلى «تشينيجن» عربية، أى تأشيرة دخول تصدر من دولة عربية واحدة صالحة لدخول جميع دول العرب، تعرف، ويعرف القاصى والدانى، أن مجلس وزراء الداخلية العرب هو الجهة الأدق تنسيقا بين أطرافه، والقادر على أن يضمن كفاءة تسيير تأشيرة دخول جماعية كتلك التى تستخدمها أوروبا. سمعت أردوجان يقترحها، وهو اقتراح غير قابل للتنفيذ إقليميا بدون أن تكون قاعدته نظاما عربيا للتأشيرة الموحدة. فليصدر الاقتراح من القاهرة بحيث لا تبطله حجج الإرهاب والهجرة والتشدد الدينى، وكلها مشكلات موجودة فى أوروبا التى تطبق التأشيرة الموحدة، وموجودة فى تركيا، ومع ذلك يقترح أردوجان تجاوزها بخطوة أولى نحو التكامل الإقليمى.

تستطيع مصر تستطيع أن تلعب دورا إقليميا نشطا فى جميع دوائرها الإقليمية، وتساهم فى حل المشكلات العديدة التى تهدد استقرار الشرق الأوسط العادى والأوسع ولكن قبل أن تفعل ذلك يتعين عليها أن تقتنع أولا بأنها إذا أرادت أن تلعب أدوارا دولية أو إقليمية ذات قيمة فواجبها أن تمارس نشاطا أكبر وتبذل جهدا أعظم لتنشيط دورها كطرف عربى فى الأزمات العربية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved