شروخ ٣٠ يونيو: تساؤلات وتحديات

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 2 ديسمبر 2013 - 7:40 ص بتوقيت القاهرة

الجيل الجديد هو البطل الحقيقى لثورتى يناير ويونيو وفى الاستهتار بطموحاته احتمالات تراجع محتملة وخطيرة على خريطة الطريق.. وهذا ما لا تريد السلطة الانتقالية أن تراه.

هناك شروخ على خريطة الطريق بعضها عابر وبعضها الآخر منذر. مما هو عابر بانفعالاته ارتفاع منسوب السخط على مستويات الأداء العام، فأصحابه مستعدون لتحمل تكاليف المخاض الطويل للمرحلة الانتقالية الجديدة ويبحثون فى الحوادث المتدافعة عما يطمئن على صورة المستقبل.. ومما هو منذر أن تفلت التفاعلات إلى فجوات مع الأجيال الجديدة بمعناها الاجتماعى لا التنظيمى تعيد صياغة المشهد كله وتفضى إلى مسارات «خارج خريطة الطريق».

السلطة الانتقالية تتحمل المسئولية الأولى عن أية شروخ قد تتسع وانهيارات قد تحدث.. فوسائلها السياسية تخذلها عن أن تتصرف وتقنع بما يوفر لخريطة الطريق القدرة على المضى استحقاقا بعد آخر إلى محطتها الأخيرة بذات الزخم الذى رافق إعلانها.

هناك تراجع ما فى درجة الزخم وارتفاع آخر فى درجة الإحباط على ما تسجل بعض استطلاعات الرأى العام.. ولا يعنى افتقار جماعة الإخوان المسلمين إلى أى ظهير شعبى يساندها فيما تسعى إليه من تقويض للدولة وسلطتها الانتقالية أن السلطة نفسها سوف تظل تتمتع بذات الدرجة من الدعم الشعبى الذى وصل ذروته عند إزاحة «محمد مرسى» وجماعته فى تظاهرات (٢٦) يوليو التى فوضت عشرات ملايينها الجيش حسم «العنف والإرهاب المحتمل».

التراجع بذاته ليس هو المشكلة، فمراحل الانتقال بطبيعتها قلقة فى حساباتها ومتقلبة فى مشاعرها وفى حالات السيولة السياسية فإن معدلات القلق تتصاعد وتقلبات المشاعر تأخذ منحاها الحاد. المشكلة أن السلطة لا تدرك بما يكفى أن هناك مشكلة.. لا ترى المخاطر الكامنة على جنبات خريطة الطريق وتبدى شيئا من الاستهتار بظواهر تنمو على الأرض ليست خطيرة فى حجمها الحالى لكنها قد تأخذ مسارات أخرى فى أوقات لاحقة تربك الخريطة كلها.

الاستهتار آفة السلطات.. وفى غياب السياسة روح مغامرة بالمرحلة الانتقالية كلها.

فى هذه اللحظة التى يتسلم فيها الرئيس المؤقت «عدلى منصور» مشروع الوثيقة الدستورية الجديدة من رئيس لجنة الخمسين «عمرو موسى» تتبدى أجواء معركة أخرى فى تحول جوهرى جديد، فتأسيس شرعية دستورية بتوافق واسع عليها ينهى إلى الأبد فى صناديق الاقتراع أية إدعاءات شرعية منسوبة إلى الرئيس السابق «محمد مرسى». المعنى أن هناك فرصا لتأكيد وحدة القوى التى شاركت فى تحولات (٣٠) يونيو على أسس من توافق عام على طبيعة الدولة وحقوق مواطنيها ونظام حكمها.. وهناك مخاطر من أن تفلت من أصحابها، فالوثيقة الدستورية نصوصها نقلة تاريخية بالقياس على أى دستور مصرى سابق غير أن بعضها يثير تساؤلات وتحديات تستحق الإجابة عليها بعقلانية ومواجهتها بصراحة، فأنت لا تقنع إلا بما هو مقنع على ما تقول قاعدة سياسية وإعلامية شهيرة.

لا يكفى أن تردد السلطة كلامها المعتاد عن هيبة الدولة حتى تختفى الأزمات من على مسارحها أو أن تراهن على قبضة الأمن حتى تعود الأمور إلى استقرارها.

لا أمن بلا سياسة تسنده ولا هيبة دولة بلا أفق مستقبل.. مسألة الهيبة نفسها تستحق صياغة أفضل من العبارات التى تتردد فى الخطاب الرسمى.

بحسب معلومات متواترة فإن اللاعبين الكبار فى السلطة الانتقالية يعتقدون أن اعتبارات هيبة الدولة تفوق أية اعتبارات أخرى والهاجس الأول عنوانه: الاقتصاد.. فالأرقام تشير إلى أن أزمته تتفاقم والتقديرات تؤكد أنه لولا المساعدات الاقتصادية الخليجية لكان قد دخل فى مرحلة الإفلاس المعلن. لا أمل بحسب التقديرات ذاتها فى تعافيه وخروجه من غرفة العناية الفائقة التى يعيش فيها الآن على أجهزة تنفس اصطناعية بلا أمن عام أوسع فى مفهومه من الأمن السياسى الذى يستغرق وقت الداخلية وينهك جنودها وضباطها.

المعنى أن الأمن وحده لا يقدر على استرجاع هيبة الدولة وأن إعفاء السياسة فى صناعة القرارات يفضى إلى عكس ما هو مطلوب.. كأنها دعوة مبطنة إلى مزيد من إنهاك الأمن فى غير قضيته.

المثير هنا أن الأمن منهك والجيش مستهدف والحرب على الإرهاب قد تمتد. الجماعات التكفيرية تمركزت فى سيناء وفى مثلث الإسماعيلية الصالحية بلبيس ومناطق أخرى فى الداخل المصرى وتفكيكها يحتاج إلى وقت والوقت يحتاج إلى دولة قادرة على دفع فواتير المواجهات، والتعريض بالداخلية وضباطها والجيش وقياداته على ما يقول الخطاب المعتمد فيه شىء من الدعم المبطن بقصد أو بدون قصد للإرهاب وأهدافه، وهذا التفكير فى خطوطه العريضة يؤيده القطاع الأغلب فى الرأى العام، فالمصرى العادى يريد أن يرى أمامه دولة قوية تعيد الأمن إلى شوارعه والاقتصاد إلى حركته غير أنه ينطوى على كمائن خطر قد تدفع التفكير كله إلى مأزق يأخذ من الدولة ما تبقى لها من هيبة.

الدول لا تدار بالشعارات وضبط الأداء العام بما يكفل للدولة هيبتها يستدعى نظرة أخرى تضع فى اعتبارها قبل أى شىء آخر تكريس فكرة دولة القانون بمعناها الدستورى والحقوقى والتى تعنى على رأس ما تعنيه غل يد السلطات عن التنكيل بنشطاء سياسيين سلميين أو اقتحام البيوت وترويع من فيها. التورط الأمنى فى مثل هذه الممارسات يسىء إلى المرحلة الانتقالية كلها ويطرح تساؤلات قلقة فى وقت حرج عن طبيعة الدولة وما قد تفضى إليه التحولات الجارية. سؤال الشرطة يطرح نفسه بعد أن استعادت شيئا من عافيتها وشيئا آخر من الرضا الشعبى، وهو ما كانت تفتقده من قبل بفداحة: هل من الممكن أن تعود إلى صورتها القديمة التى استدعت الثورة عليها فى (٢٥) يناير؟

التحولات كلها لا تجرى فى لحظة واحدة ومصر تحتاج إلى وقت حتى تستقيم العلاقة ما بين الشرطة وشعبها بما يحفظ للأولى احترامها الضرورى وللثانى حقوقه الدستورية فى أن تكون الشرطة فى خدمته.

الأمن مسألة دولة تكون أو لا تكون، وهى مسألة لا يصح النقاش فيها لا هنا فى مصر ولا فى أى مكان بالعالم. الضرورات الأمنية من زاوية ما ضرورات سياسية للمضى فى استحقاقات خريطة الطريق وتمكين الإرادة الشعبية أن تقول كلمتها بصناديق الاقتراع على الوثيقة الدستورية وبعدها الانتخابات النيابية والرئاسية.. غير أن الشروخ تبدأ فى الاتساع عندما يسند للأمن ما يعرضه لخسارة ما فى صفوف الرأى العام ويسىء مجددا إلى سمعته، وقد كان قانون التظاهر عنوان أزمة أكثر من أن يكون هو نفسه الأزمة. التوقيت أثار تساؤلات حول مغزاه وأهدافه وما إذا كان ممكنا أن يفضى إلى إعادة إنتاج الدولة الأمنية التى تتدخل فى البحث العلمى وحركة الاقتصاد وعمل الوزارات ويخضع لتعليماتها جهاز الدولة كله. التساؤلات مشروعة، فلا هو ممكن بلا تكاليف باهظة ومدمرة لخريطة الطريق والمستقبل نفسه ولا المصريون الذين يطلبون رؤية الدولة وقد استعادت عافيتها وقدرتها على حفظ الأمن العام وضمان سلامة حركة الاقتصاد بمقدروهم أن يقبلوا العودة إلى أدوار «المواطن الخانع» التى كانوا عليها قبل يناير.

عندما يقال إن قانون التظاهر استقى نصوصه من قوانين غربية مماثلة فإن الكلام كله يخرج عن سياقه التاريخى، فالديمقراطيات الغربية استقرت قواعدها بينما الأمر فى مصر أقرب إلى السيولة والتظاهر بدا لنحو ثلاث سنوات الوسيلة الرئيسية للاحتجاج السياسى ومناهضة السلطات المستبدة. بصورة أو أخرى بمسار أو آخر فإن قانون التظاهر محكوم عليه بتعديلات جوهرية.. وهناك ثلاثة مسارات لتعديله.

أولاها أن تدخل الحكومة عليه تعديلات رئيسية وفق تحفظات معلنة للمجلس القومى لحقوق الإنسان، وهذا لن يؤثر على فاعلية القانون ولا هيبة الدولة ويفتح المجال واسعا لسد فجوات قد تستخدم للتحريض على السلطة الانتقالية وخريطة طريقها أو إعادة ترتيب الأوراق على مسرح مضطرب والمستفيد الأول جماعة الإخوان المسلمين بتظاهراتها التى لا تنتسب على أى نحو للسلمية.

ثانيتها أن يجرى الطعن عليه أمام المحكمة الدستورية العليا، وبعض مواده تتصادم مع ما جاء فى الوثيقة الدستورية الجديدة من نص يحجب إمكانية تفريغ الحقوق الدستورية من مضامينها، فالفارق شاسع بين تنظيم حق التظاهر ووضع قيود تمنعه.

مشكلة القانون أنه جاء فى لحظة قلق لمواجهة جماعة بعينها أفلتت تظاهراتها من أى سلمية، لم تكن السلطة فى حاجة إليه فترسانة القوانين تخولها إجراءات مشددة لمنع استخدام العنف وقطع الطرق والاعتداء على المنشآت العامة والخاصة.

ثالثتها أن يتولى البرلمان المنتخب بنفسه تعديل القانون خاصة أن أحزاب «جبهة الإنقاذ» طالبت الحكومة بإدخال تعديلات عليه، وفى الأغلب فإن أكثرية البرلمان القادم سوف تؤول إلى أحزاب هذه الجبهة.

المسارات كلها تفضى إلى تعديله فى مدى منظور، غير أنه من الضرورى التأكيد على احترام القانون وإنفاذه مع الاعتراض عليه فى نفس الوقت بالوسائل السياسية والحقوقية على ما يقول الاستاذ «محمد فائق» رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان.

مأساة السلطة وقانونها أنها أساءت إلى المرحلة الانتقالية وصورة التحولات الجارية فى مصر فى الميديا الغربية. افتقدت قدرتها على قراءة ما حولها واتخذت قرارات بلا دراسة جادة تسبقها تحفظ للقانون احترامه وللأمن اعتباره. بدا لكثيرين أن الأمن قد وقع فى كمين، فإما أن يغض الطرف عن استخدام القانون ويبدو ضعيفا ومتراخيا يمارس ازدواج المعايير مع التظاهرات بحسب انتماءاتها السياسية وإما أن يفعل نصوصه ويدخل فى اشتباكات مع جماعات شبابية غاضبة العصف والتنكيل بها يستفز بمشاهده جيلا بأكمله.. قد تكون له انتقاداته للنشطاء السياسيين الذين تظاهروا والجماعات التى ينتسبون إليها وعندهم تساؤلات حول حقيقة التوجهات إلا أنه يصعب عليه تقبل أن يجرى تنكيل بحقوق تأكدت أو تراجع عن حريات انتزعت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved