سنة جديدة بيضاء

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 3 يناير 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

ينهمك الدمشقيون فى أول يوم من السنة الجديدة بطبخ طعام لونه أبيض، وذلك لاستقبال عام يتمنونه أبيض بمعنى النقاء والهدوء. فى أول يوم فى العام الجديد، يملأ البخار أسقف المطابخ فى دمشق وتداعب رائحة اللبن والحليب المطبوخين الأنوف، إذ يتفنن الدمشقيون بطبخ اللبن (الزبادى) كقاعدة لأطباق معينة، كما يتميزون باستخدام الحليب كقاعدة للحلويات. 

***

ربما يتشارك المطبخ السورى أو المشرقى فى بعض الأساسيات مع المطبخ التركى أو العثمانى، فيصعب اقتفاء أثر كل الأطباق بشكل دقيق، لكن يبدو أن طبخ لبن الزبادى سمة دمشقية، حيث يكتسب اللبن هيئة شوربة يغلى داخلها قطع من اللحم أو الدجاج (طبق الشاكرية) أو تغلى فيها قطع الكوسة المحشية باللحم والصنوبر (شيخ المحشى) أو الكبة ودوائر العجينة المحشية باللحم المفروم أيضا (الشيشبرك).

***

أيا كان الطبق، فالأساس هو غلى لبن الزبادى حتى يزداد كثافة مع إضافة بعض النشاء والملح، ثم طهى ما يختاره أصحاب البيت فيه حتى الاستواء. يصب بعد ذلك المحتوى فى طبق ويعلن من يحمل الطبق إلى المائدة أن السنة سوف تكون بيضاء على الجميع.

***

أما لو اختار الشخص أن «يبيض السنة» بالحلويات فإنه سوف يتردد بين الرز بالحليب بقوامه المتماسك وحبوب الرز الطرية بفعل غليها فى الحليب، وبين المهلبية التى قد يغطى وجهها فى ما بعد بـ«البالوظة» أى مزيج البرتقال والنشاء فيأخذ وجه المهلبية لونا فرحا فوق اللون الأبيض. فى الحالتين سوف يضيف من يحضر الطبق قطرات من ماء زهر البرتقال على المزيج السكرى وسوف يختم العملية برشة مستكة مطحونة ترفع من شأن الطبق فى لحظات، وكأن سيدة فى كامل أناقتها قد رشت عطرا من زجاجة فاخرة قبل أن تخرج للقاء صديقاتها.

***

أتذكر فجأة عادة تبييض وجه السنة الجديدة اليوم، فى اليوم الثالث من السنة، فأمسك وجهى بيدى لأننى لم «أبيض» سنتى وسنة عائلتى بطبق لون محتواه أبيض. لا أعرف إن كان العقل الباطن هو من يقرر فى كثير من الأحيان ما سوف يمليه علينا الوعى، إنما ولعى بالإشارات عموما يجعلنى أتوقف عند حادثة نسيان الطبق الأبيض هذه السنة. هل يبدو لى المنظر قاتما بشكل لم ألتقط فيه أى بياض؟ أم أننى ابتعدت عن مدينتى طويلا فبدأت بعض عاداتها بالتساقط من حياتى كما تتساقط أوراق شجرة النارنج عن جذعها بعد أن تكون قد حملت الكثير من ثمار البرتقال المر الذى يبرع الدمشقيون بتحويله إلى مربى؟ أتذكر بسرعة أنه حتى لو فقدت شجرة النارنج أوراقها فإن الدمشقيين يلتقطون الأوراق ويستخدمونها أيضا فى الطبق الأبيض، فيضعون ورقة أو ورقتين من شجرة النارنج فى الحليب أثناء غليه بدل أن يضعوا فيه ماء زهر البرتقال، وبذلك يكتسب الحليب طعما لا مثيل له يذكر بالبرتقال المر الذى يحوله الدمشقيون إلى تحفة صغيرة، مربى النارنج الذى يلمع السكر عليه كحبات متناثرة من الكريستال البراق.

***

أسرع بسؤال من حولى: «حدا عنده شجرة نارنج فى حديقة بيته؟» إذ أريد حتى لو ورقة واحدة أغليها فى الحليب. لا يهمنى أننا قد عبرنا إلى العام الجديد منذ أيام، فالتأخير يبدو لى هنا أحسن من التجاهل التام لعادة راسخة. لا يهمنى إن «بيضت» السنة فى اليوم الرابع أو الخامس طالما أننى أيضا وقفت أحرك الرز والسكر والحليب فى يوم شتاء بارد كأيام كثيرة جلست فيها فى مطبخ بيت عائلتى فى دمشق أراقب فيه أمى ومن قبلها جدتى تحركان الحليب بالطريقة نفسها. «ما بصير توقفى تحريك لأن ممكن يلزق الرز» جملة قالتها جدتى ثم أمى وها أنا أقولها لأطفالى على أمل أن يربطوا بين العام الجديد واللون الأبيض، وأن يفهموا رمزية البياض وأهمية ورقة النارنج التى استبدلتها بقشر الليمون، إذ لم يسعفنى أحد بورقة نارنج فى القاهرة. أشرح لأولادى موضوع الورقة والشجرة كمكون أساسى فى حديقة المنزل الدمشقى. لا يهم أن أولادى لم يروا بيتا دمشقيا بحديقته الداخلية وأسقفه العالية. لا يهم أنهم غير معنيين فى هذه المرحلة من أعمارهم بشجرة النارنج. لا يهم أيضا أن الطبق الأبيض لا يمثل عندهم أولية. كما لا يهم أن بالنسبة لهم فالكثير من حكاياتى لا أساس بصرى لها فى ذكرياتهم.

***

ما يهمنى فى المقام الأول هو أن أقف أيضا أمام النار كما فعلت نساء عائلتى من قلبى فأقلب محتوى قدرة فوق النار ويتجمع البخار فى سقف المطبخ بينما أزيد ربما الملح وربما السكر لأننى أصر أن فى السنة الجديدة يجب على جميع من فى البيت أن يأكل اللون الأبيض. ما يهم هو أن أحمل طبقا لون محتواه أبيض وأخرج من المطبخ منادية على أفراد عائلتى أن يغرسوا ملاعقهم فى البياض لنستقبل عاما أبيض أتمناه رحيما علينا جميعا.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved