الفرصة الحقيقية أمام جيش مصر

محمد المنشاوي
محمد المنشاوي

آخر تحديث: الأحد 4 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لم يكن بمفاجأة ما أثبتته تجربة خبرة فترة زادت على سنة كاملة منذ تنحى الرئيس السابق، وحتى الآن، من ضعف إمكانيات المؤسسة العسكرية المصرية فى إدارة العملية السياسية سواء فى ملفاتها الداخلية أو قضاياها الخارجية. وهذه النتيجة تبدو طبيعية، فلا ينتظر ولا يتوقع أن تكون السياسة والحكم من مهام الجيوش فى الدول الحديثة.


وترجع علاقة الجيش بالدولة المصرية إلى تاريخ وجود مصر نفسها. وتدل لوحة توحيد مصر فى عهد الملك مينا مؤسس الأسرة الفرعونية الأولى (لوحة نارمر) على أن مصر الموحدة تأسست متكئة على وجود أول جيش وطنى لدولة فى التاريخ قبل 3200 من ميلاد السيد المسيح.

 

وهكذا ومنذ وجود مصر كدولة لعب جيشنا دورا كبيرا فى الدفاع عن التراب الوطنى. وقدم جيش مصر للعالم أسس الفكر العسكرى، وتقاليد الجندية المحترفة. ومع نشأة الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على باشا، كان العماد الأساسى لها بناء جيش وطنى متطور صناعيا وتكنولوجيا بالمعايير العالمية حينذاك، وابتعد جيش مصر كثيرا عن دهاليز عمليات السياسة الملتوية.

 

إلا أن نجاح حركة الضباط عام 1952 سمح، وللمرة الأولى فى التاريخ المصرى الطويل، بسيطرة المؤسسة العسكرية على كل ما يتعلق بالحكم والسياسة. ويعد خروج كل رؤساء مصر الأربعة، نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك، وتعاقب عشرات المحافظين ومئات من كبار مديرى المصانع والمؤسسات الحكومية، من تحت عباءة المؤسسة العسكرية ــ خير دليل على هذه السيطرة. ونتج عن تورط الجيش فى الحياة السياسية ضياع فرصة تاريخية أمام الجيش لكى يكون العمود الفقرى الحقيقى لدولة مصرية حديثة.

 

فى الوقت نفسه، لا يمكن لأحد أن ينكر ما وصل إليه حال مصر خلال العقود الستة الأخيرة من ترد لا يستحقه الشعب المصرى. وينعكس ذلك بوضوح معايير التنمية البشرية والتكنولوجية والعلمية الدولية المحايدة. ويظل بقاء أكثر من 20 مليون مصرى لا يعرفون القراءة والكتابة، والانحدار المستمر فى حال مستشفيات ومدارس وجامعات مصر، إضافة لانتشار الأمراض بين ملايين المصريين، وعدم القدرة على تنظيف شوارعنا ومدننا وقرانا، وفشلنا المخجل فى حل مشكلة المرور، ناهيك عن عدم القدرة على إطعام أنفسنا، كدلائل واضحة لعدم القدرة على بناء دولة متقدمة وحديثة خلال العقود الستة الأخيرة.

 

وتجىء تأكيدات المجلس الأعلى للقوات المسلحة المتكررة بعدم وجود مرشح لهم أو منهم فى الانتخابات الرئاسية القادمة كبداية جيدة. ويمثل ذلك فرصة مناسبة، ليتفرغ الجيش لمهامه المتعلقة بحماية حدود مصر، والإسهام فى إقامة دولة حديثة يكون هو أحد أعمدتها.

 

من ناحية أخرى، استطاع جيش إسرائيل، المحترف وغير المسيس، أن يكون العمود الفقرى فى تحقيق تقدم تكنولوجى كبير. وهو ما جعل من إسرائيل اليوم بين أهم مراكز الصناعات التكنولوجية على مستوى العالم. وجعلها مركزا لإدارات البحث والتطوير Research & Development للعديد من الشركات الكبرى مثل إنتل وجوجل ومايكروسوفت، وكان له أثر كبير فى زيادة الاستثمارات فى قطاع تكنولوجيا المعلومات فى إسرائيل، حيث بلغ أكثر من تريليون دولار (ألف مليار دولار) منذ عام 2000، كما يذكر الباحث الجاد الأستاذ محمد عبدالله يونس فى عرضه لكتاب «أمة الابتكار: قصة معجزة إسرائيل الاقتصادية».

 

ويذكر الكتاب أن جيش إسرائيل استطاع أن يحول قطاع التكنولوجيا إلى قاطرة أساسية للتنمية الاقتصادية، وأن يصبح هذا القطاع هو الأكثر جذبا للاستثمارات الأجنبية. وخلال عام 2009 فقط، تصاعد عدد الشركات الإسرائيلية المسجلة فى مؤشر الصناعات التكنولوجية الأمريكى ناسداك NASDAC إلى نحو 65 شركة وهو أعلى عدد للشركات الأجنبية فى المؤشر بالمقارنة بنحو 45 شركة كندية و6 شركات يابانية و5 شركات بريطانية و3 شركات هندية.

 

ويؤكد الكتاب أن تصاعد دور الصناعات التكنولوجية فى الاقتصاد الإسرائيلى يرجع إلى الدور المحورى للجيش الإسرائيلى فى المجتمع. وأهم ما يقوم به الجيش هناك هو تكسير للحواجز الطبقية والهيراركية والمادية التقليدية داخل المجتمع. كما يوفر جيشهم بيئة تدريب ممتازة لشباب المجندين تحفزهم على الاستخدام الواسع للتكنولوجيا بما يفرز عددا كبيرا من المبتكرين والباحثين فى مجالات التكنولوجيا المختلفة يستفيد منها بصورة مباشرة الاقتصاد الإسرائيلى.

 

ويشير الكتاب إلى أن الطالب الإسرائيلى الذى ينهى دراسته فى المدارس العليا يختلف عن نظيره فى جميع دول العالم تقريبا. هو لا يبحث عن الجامعة التى سيلتحق بها أو التخصص الجامعى الذى سيرتاده، وإنما يبدأ الاستعداد للالتحاق بقوات الاحتياط فى الجيش لمدة ثلاث سنوات للشباب وسنتين للفتيات. ويبذل الطالب قصارى جهده فى مرحلة الاختبارات المبدئية ليتم اختيارهم فى إحدى وحدات النخبة فى الجيش التى عادة ما يتسم اختيارها للمجندين الجدد بانتقائية شديدة وشفافية مماثلة لما تقوم به الجامعات العالمية مثل هارفارد وكامبريدج. ويعزز كل ذلك فرص التحاقهم بالشركات الكبرى بعد نهاية فترة خدمتهم العسكرية. وحتى إذا لم يلتحق بعض الشباب بوحدات النخبة فى الجيش فإن مجرد امتلاك الخبرة العسكرية يسهم فى تعزيز فرصهم لشغل وظائف فى مختلف قطاعات الاقتصاد الإسرائيلى.

 

كما لا يمكن مقارنة جيش إسرائيل وعدد الحروب التى خاضها، (بغض النظر هنا عن مبادئ الحق والشرعية والأخلاق) مع أى جيش آخر فى منطقتنا. ومع هذا حقق جيشهم ما يراه العالم معجزة اقتصادية خلال العقدين الأخيرين، وصل معها متوسط دخل المواطن الإسرائيلى السنوى إلى أكثر من 27 ألف دولار أمريكى، فى وقت لم يتعد فيه متوسط نصيب دخل المواطن المصرى 3 آلاف دولار فقط، أو عشر ما يحصل عليه المواطن الإسرائيلى.

 

فلتبق جيوشنا بعيدا عن السياسة، ولينشغل جيش مصر، وهو الجهة الوحيدة التى تقدر، بمحو أمية ملايين المصريين، ولينشغل جيش مصر بالأبحاث التكنولوجية والعلمية التى لا مفر منها لإعادة بناء دولة حديثة فى مصر كما فعل محمد على باشا منذ 200 عاما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved