تمارين نرويجية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 3 مارس 2014 - 5:20 ص بتوقيت القاهرة

سألته بلا مقدمات: «فيدر.. هل أنت وزير خارجية النرويج القادم؟».

ابتسم بتحفظ فالانتخابات النيابية فى بلاده توشك أن تبدأ بعد أسابيع وحزبه «المحافظين الليبرالى» تشير استطلاعات الرأى العام إلى تقدمه واسمه على رأس المرشحين لتقلد حقيبة الخارجية التى عمل نائبا لوزيرها ما بين عامى (٢٠٠١) و(٢٠٠٥).

كان «فيدر هيلجيسين» يسأل ويستقصى خلفيات الأزمة المصرية مع قيادات الحكم والمعارضة.

قضيته الأولى الانتخابات وضمانات نزاهتها باعتباره كان يشغل وقتها منصب الأمين العام للمنظمة الدولية للديمقراطية والانتخابات «أيديا»، ومقرها الرئيسى العاصمة السويدية «ستوكهولم».

الحوار امتد لأكثر من ساعتين وتطرق إلى لقاء جمعه بالرئيس السابق «محمد مرسى» فى صباح هذا اليوم (٢١) مايو (٢٠١٣).

تحدث بشىء من التحفظ اعتاده السياسيون الإسكندنافيون وشىء آخر من المهنية فى ضبط عباراته.

حديثه المقتضب أوحى بصدمة ما فى مستويات أداء الرئاسة المصرية التى افتقدت القدرة على إدراك طبيعة دورها فى لحظة تحول معقدة.

بعد وقت قصير للغاية أطيح حكم «مرسى» وكسب حزبه الانتخابات النرويجية. تشكلت حكومة ائتلافية تولى فيها منصب وزير الشئون الأوروبية ونفوذه فاق التوقعات المسبقة.

هو الآن فى الرابعة والأربعين من عمره وقد يصعد لمنصب الرجل الأول قبل الخمسين.

اللعبة السياسية فى النرويج، شأن أغلب الدول الأوروبية، تحكمها قواعد وأصول ولا شىء يأتى من فراغ أو بمحض مصادفة.

مدارس الكادر الحزبية تكتشف وتدرب وتؤهل القيادات المحتملة للدولة فى بواكير شبابها وتعمل على تطوير قدراتها فى فهم المتغيرات السياسية والتعامل معها.

القنوات السياسية تفتح بدورها فرصا إضافية أمام القيادات الشابة لاكتساب الخبرة فى «المحليات».

والمعنى هنا أن تجديد الدماء من شروط قدرة الأحزاب على كسب ثقة مواطنيها وفكرة «الحكومة السياسية» راسخة فى قواعد اللعبة ومن متطلبات الديمقراطية.

فى التمارين النرويجية إشارات إلى أزمة تعترض التطور الديمقراطى فى مصر، فلا سياسة بلا سياسيين ولا حكومات مستقرة بلا رؤى تحكمها.

الكلام شبه الرسمى فى مصر عن حكومة تنبذ السياسة خروج مباشر عن مقتضيات تأهيل البلد كله لحكومة دستورية من مقتضياتها ثقة البرلمان فى برنامج تقدمه يتوافق مع إرادة أغلبيته.

طريقة التفكير أخطر من أية تساؤلات أو احتجاجات لاحقت التشكيل الحكومى الجديد. بدت مصر فى حالة انكشاف، فلا نخبة حكم سياسية كفؤة ومدربة على مهام الدولة ولا نخبة معارضة قادرة على الوفاء بمتطلبات التحول الديمقراطى.

فى الانكشافين ما يستدعى تفكيرا مختلفا عما جرى فى تشكيل حكومة المهندس «إبراهيم محلب».

ما كانت تحتاجه مصر أن تمضى ولو بتعثر إلى «تسييس الحكومات» لا العودة إلى انتهاج الأساليب القديمة بالبحث فى أرشيف بيروقراطية الدولة عن وجوه تتولى المناصب الوزارية. قد تصلح أو لا تصلح فى مهمتها لكنها فى الحالتين أقرب إلى الموظفين العموميين الذين يتبعون التعليمات الرئاسية لا شركاء فى صناعة القرار أو أطراف فى رؤية ومشروع.

أخطر ما فى طريقة التفكير استدعاء تجربة رئيس الوزراء الأسبق «أحمد نظيف» بدرجة ما فى التشكيل الحكومى الجديد. وقد كانت تجربة حكومته عام (٢٠٠٤) برعاية نجل الرئيس الأصغر «جمال مبارك» كارثية بالمعنى الحرفى للكلمة. أطلق عليها «حكومة رجال الأعمال» وتضاربت المصالح ودخل البلد كله إلى ألغام انفجرت فى أصحابها.

القضية أكبر من أن تكون حديثا عن وزير أو آخر أو مدى توافر الشروط فيمن يشغل الوظيفة العامة. إنها طريقة تفكير قبل أى شىء آخر ونهج فى الحكم له عواقبه على مدى منظور.

طريقة التفكير تؤدى إلى قطع الطريق على الديمقراطية أو الانتقال إلى عصر جديد وفق القواعد الدستورية وربما تنحية الدستور نفسه فى التوازن بين السلطات، فإذا كانت الحكومات بيروقراطية أو يتسيدها رجال أعمال تتداخل مصالحهم فى عمل الوزارات التى يتولونها فإن أى رهان على المستقبل يستحيل أوهاما.

والقضية لا تلخصها حكومة «محلب»، فهى مؤقتة بطبيعة مهمتها والوقت المتاح أمامها، لكنها تشير إلى مزالق الخطر.

تصرف «محلب» فى حدود خبرته التى اكتسبها من المقاولات والإنشاءات والنجاح فيها. صدمته الاعتراضات على اختياراته الوزارية، وبعض الاعتراضات أدت إلى ارتباكات هزت صورة الحكومة قبل أن تحلف اليمين الدستورية. لخص رؤيته للارتباكات والانتقادات فى جملة موحية أن «مصر تفتقد الحب». الجملة بدلالاتها تكشف عن رجل صلته بالسياسة أقرب إلى المتابعة من بعيد وجد نفسه فى قلب دواماتها بلا تهيؤ.

فى حكومة «الببلاوى» نزعة سياسية وفى حكومة «محلب» نزعة مضادة للسياسة. وما بين النزعتين قد تضيع الحقائق فى صخب الصراخ.

ما يستحق المراجعة فى تجربة حكومة «الببلاوى» الأسباب التى أدت إلى اهتزاز صورة أول حكومة شبه سياسية منذ عقود طويلة. حكومته تسيدت مناصبها القيادية شخصيات محسوبة على «جبهة الإنقاذ». وكان ذلك تطورا نسبيا فى بنية الحكومات المصرية لكن غياب القواعد المؤسسية قوض واحدا من أهم التحولات السياسية قبل أن تستقر حقائقه، فأحزاب «الإنقاذ» مالت إلى أن دورها انتهى بإطاحة الإخوان من السلطة والوزراء الذين خرجوا من عباءتها مالوا بدورهم إلى اعتبار أنهم فى مهمة إنقاذ لا علاقة لها بـ«جبهة الإنقاذ».

فى فك الأواصر ما بين الجبهة والحكومة تبدى الخلل الجوهرى فى فكرة الحكومة السياسية.

تفاوتت مستويات الأداء بين الوزراء السياسيين الذين صعدوا إلى مناصبهم من صفوف المعارضة دون أن تتوافر لديهم خبرة الدولة. وهذه مسألة ضرورية تتطلب وقتا، فهناك فارق بين رجل المعارضة ورجل الدولة. الأول احتجاج والثانى قرار. تجربة الحكومة شبه السياسية لم يتسن لها أن تتطور أو أن تترسخ قواعدها وبات الكلام كله استخفافا بها رغم أنه لا مستقبل لأية حكومة دستورية قادمة بلا قاعدة تأييد سياسية تستند أولا وقبل أى شىء على حياة حزبية نشطة.

الكلام المستخف يثير تساؤلات حول مستقبل الحياة الحزبية، فإن لم تتحمل الأحزاب المسئولية التنفيذية فإنها تعود إلى الخطوط القديمة، أحزاب محاصرة فى مقارها وعلى هامش معادلات الحكم. تحمل المسئولية التنفيذية هو الذى يكسبها خبرة الدولة ويرتقى بمستوى الأداء العام للمعارضة.

هذا هو الطريق الإجبارى لتأسيس مجتمع ديمقراطى حر ينقل نصوص الدستور إلى أرض الواقع. الاختبار الحاسم عنوانه: قانون الانتخابات النيابية. الاتجاه الغالب حتى الآن يميل إلى اعتماد الدوائر الفردية خيارا رئيسيا وتخفيض حصة القوائم الحزبية إلى أدنى حد ممكن. المزاوجة بين النظامين ضرورية لكن الافتئات على حصة القوائم يعنى تهميش الأحزاب التى تحتاج إلى وقت لبناء تصوراتها وتأسيس قواعدها بعرض قياداتها على اختبار الانتخابات بعيدا عن الحسابات العائلية والقبلية التى تتحكم لحد كبير فى اختيارات الفردى.

فى استبعاد السياسة أزمات تلوح فى الأفق القريب تدفع بشكوك سياسية تبحث فى النوايا والخفايا وتمنع عن المجتمع المصرى حقه فى تمارين ديمقراطية تكتشف وتؤهل رجال الدولة من داخل الحياة الحزبية على الطريقة النرويجية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved