من قمة القاهرة الأولى إلى قمة الدوحة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 3 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تستحيل المقارنة بين القمة العربية الأولى التى انعقدت بدعوة من الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر، فى مقر جامعة الدول العربية فى القاهرة، وبين القمة العربية التى انعقدت قبل أيام فى الدوحة وبرئاسة أميرها الشيخ حمد بن خليفة.

 

كان الهدف المعلن من الدعوة لعقد القمة الأولى: حماية الأمن القومى العربى، وتعزيز قدرات «دول الطوق»، فى المشرق، للدفاع عن حدودها وبالذات عن أجوائها التى كانت مفتوحة كلها، أمام الطيران الحربى للعدو الإسرائيلى، ومنع هذا العدو من تحويل روافد نهر الأردن، بما يحرم دول حوض هذا النهر من الإفادة من مياهه الشحيحة أصلا.

 

ولقد أعقبت القمة الأولى قمة عربية ثانية فى العام ذاته أقرت إقامة قيادة عربية موحدة لجيوش الدول العربية، المحيطة بفلسطين عقد لواؤها للفريق على على عامر، وإقرار موازنة للتسليح نال منها لبنان (والأردن) حصة ممتازة، لا سيما فى مجال حماية أجوائه من غارات الطيران الحربى الإسرائيلى، وقد كان يتجول فى سماء مفتوحة.. (كان بين ما قدمته هذه القيادة المنبثقة عن القمة شبكة رادار متطورة ومعها صواريخ كروتال وطائرات حربية فرنسية من طراز ميراج، ما كان ممكنا الحصول عليها لو لم يكن الجنرال ديجول رئيسا لفرنسا).

 

أما قمة الدوحة فقد كان هدفها المباشر: استكمال الحشد السياسى وتعزيز قدرات المعارضات السورية المدنية والعسكرية، بعد إجبارها على التوحد، بالإغراءات المختلفة والتهديدات المعلنة، من أجل التعجيل بإسقاط النظام السورى ورئيسه بشار الأسد، بأى ثمن، بعد تحميله مسئولية المذابح الفظيعة والتى تتوالى منذ عامين طويلين، فضلا على تدمير هذه الدولة التى طالما وصفت بأنها «قلب العروبة النابض».

 

•••

 

لكم اختلفت صورة «العرب» اليوم عنها قبل نصف قرن، فمن قمة فرضها الواجب القومى بالاستعداد لموجهة العدو الإسرائيلى فى مشاريعه التوسعية (قبل أن يستكمل احتلال فلسطين جميعا وأراضى بعض الدول العربية الأخرى فى هزيمة 1967)، إلى قمة تتجرأ على «طرد» دولة مؤسسة للجامعة، هى سوريا، وتقديم مقعدها لمعارضة تختلف فصائلها فيما بينها على من هو صاحب الحق بأن يشغل المقعد المفرغ من صاحبها الأصلى.

 

لقد سجل الشيخ حمد «السابقة»: استطاع أن يفرض «رئيسا مفترضا لسوريا الجديدة غير رئيسها القائم بالأمر حتى الساعة، بغض النظر عن ممارساته.. كما استطاع من قبل أن يشكل «حكومة» للمعارضات المختلفة، سياسيا وعقائديا وفكريا!

 

ثم استطاع أن يفرض على «الحكومة» رئيسا من خارجها تماما، لا يعرفه «قدامى المعارضين» الذين تصدروا الواجهة الباريسية لفترة، كما لا يعرفه الشعب السورى لأنه مقيم فى الولايات المتحدة الامريكية منذ أكثر من ربع قرن.. وبعد ذلك، وربما لأسباب خارجة عن إرادته، اضطر إلى التسليم برئيس جديد ثم تنصيبه فوق الحكومة ورئيسها المجهول..

 

وهكذا تقدم الشيخ معاذ الخطيب، وهو إمام مسجد وابن إمام المسجد الأموى فى دمشق، بخطى ثابتة، وشق صفوف الملوك والرؤساء إلى حيث المقعد الفارغ، فاحتله وسط موجة من التصفيق، وتم تبديل علم الدولة المعنية، ببساطة، وكأن هذا الأمر يمكن حسمه، هكذا، بإشارة من الشيخ الذى كان فى تلك اللحظة رئيس القمة، و«رئيس» العديد من الرؤساء والمشاركين فيها والذين كان يصعب عليهم القدوم لولا أن تيسر من يؤمن لهم الانتقال والعودة والمصاريف اللازمة والهدايا المناسبة والمكافآت التى تعوض جهودهم.

 

حصل كل ذلك أمام العالم كله: منح مقعد سوريا لقادة قوى معارضة، مختلفين فى ما بينهم، لا يعرف السوريون معظمهم لطول استقرارهم فى الخارج، قد يكون بعضهم عظيم الأهلية، وقد يكون لبعضهم تاريخ مضىء فى النضال الوطنى، لكنهم بمجموعهم لا يشكلون «وحدة» ولا «جبهة» وخلافاتهم علنية، وارتباطات بعضهم بالخارج أوضح من أن تخفى.

 

تحفظت قلة من الدول العربية، أبرزها الجزائر والعراق، ولاذ لبنان بالصمت متبعا شعاره الأثير «النأى بالنفس»، وانشغل الرئيس المصرى بالهجوم على من يحاول التدخل فى الشئون الداخلية لمصر.

 

أما الأمين العام لجامعة الدول العربية فقد حاول تبرير الوضع الشاذ الذى انتهت إليه الجامعة بأنه نتيجة لرفض الدول العظمى إحالة موضوع سوريا إلى مجلس الأمن الدولى، لعلها إن تدخلت تنجح فى ما عجزت عنه الجامعة فتوقف الحرب المروعة فى سوريا بين نظامها الدموى والمعارضات المختلفة التى لا تقل عنه دموية، باستثناء تلك المجموعات من المثقفين وأصحاب الرأى الذين دفعوا مرات ومرات الثمن الباهظ لمحاولات نصحهم النظام بإصلاح ما فسد فيه وترشيده إلى تجنب الحرب الأهلية بالمبادرة إلى طى صفحة التفرد والعودة إلى شعبه والاستماع إلى إرادته فى ضرورة التغيير.

 

الأمر لا يتصل بالنظام السورى ومعارضاته وجدارتها بتمثيل الشعب الذى يتعرض إلى مذبحة هائلة منذ سنتين طويلتين، بل العجز الفاضح لجامعة الدول العربية، والهيمنة الفاضحة لدولة صغيرة جدا ولكنها هائلة الغنى فى أن تسيطر على القرار فى هذه المؤسسة العريقة التى كانت تشكل المرجعية الصالحة لتسوية الخلافات العربية ــ العربية، والتى لم تكن لتسجل على نفسها القصور والتقصير بل الاستقالة من واجبها والتحول إلى دائرة تصديق على «القرار القطرى» بإحالة كل من يخالف قرار الدوحة إلى مجلس الأمن الدولى.

 

السؤال عن الدول العربية الأخرى، المؤسسة للجامعة وبالذات مصر، ثم الدول العربية الكبرى وصاحبة النفوذ، والتى تخلت عن دورها، فصارت تبدو وكأنها فوضت قطر و«الحمدين» بأمور الأمة جميعا.

 

لقد كان موقف الرئيس المصرى دفاعيا وإن اعتمد لهجة الهجوم محذرا «الآخرين» من التدخل فى شئون مصر الداخلية... ولقد فهم كثيرون فى كلماته إشارة إلى قطر وطموحاتها غير المحدودة، وربما أراد آخرون أن يفهموها رسالة غير مباشرة إلى السعودية، وإن كان ثمة من فهم أن التهديد موجه إلى المعارضة فى الداخل المصرى، ولو من الخارج.

 

فى أى حال، فليست هذه المرة الأولى التى تتبدى قطر وكأنها «المرجعية العربية» الأولى وصاحبة القرار فى الشئون العربية جميعا.

 

ومفهوم أن الانقسام داخل السلطة فى العراق يضعف موقف بغداد وقرارها المحاصر بالضغوط الأمريكية والضغوط الإيرانية المضادة، وربما لهذا تبرعت بدور «الوسيط» فلما لم تحظ بقبول واسع من الطرفين توقفت عنه، وإن ظل يطاردها الاتهام بأنها تجنبت موقفا يستفز إيران.

 

ومفهوم أيضا أن الجزائر تحاول، فى الآونة الأخيرة، أن تتجنب المواقف الحادة وتفضل دور «الوسيط»، وإن ظلت متهمة بالانحياز إلى النظام السورى، آخذا بالاعتبار تاريخ العون الذى قدمه الشعب السورى خلال الثورة، ثم بعد انتصارها وقيام الدولة المستقلة، لا سيما فى تعريب المناهج والكتب المدرسية والتدريس.

 

خلاصة الكلام إن القمة العربية فى الدوحة قد قدمت صورة مبكرة لعورات النظام العربى ومباذله، فالإمرة للأغنى وليس للأعرق والأكبر، والقرار للأقرب إلى الإدارة الامريكية والأبعد عن معاداة إسرائيل.

 

وثمة من يتندر فيقول إن علاقات قيادة قطر سوف تتأثر سلبا بإسرائيل بعد شهر العسل الطويل، نتيجة لاكتشاف الكميات الهائلة من الغاز فى المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة، والتى ستجعل إسرائيل مُصدرا منافسا لقطر، وان كان ذلك سوف يتم على حساب لبنان وسوريا ومصر، فضلا عن فلسطين المحتلة ذاتها... ومعروف أن إسرائيل «تصادر» شاطئ غزة والمياه الإقليمية أمامه، وتلحقها ببحرها المصادر بدوره.

 

•••

 

السؤال: هل تبقى للقمة العربية، فضلا عن جامعة الدول العربية، أى دور فى السياسة العربية، أم صار القرار فيها لأغنى أعضائها حتى لو كانت اصغر دولها؟!

 

لقد اختفت ملاح «العدو» عن الكيان الصهيونى، ولم يعد كثير من المسئولين العرب يستغربون المزاح الإسرائيلى الثقيل عن احتمال التقدم بطلب انتساب إلى جامعة الدول العربية، لا سيما أن أكثرية هذه الدول قد أسقطت عنه صفة «العدو».

 

صار لكل دولة عربية ما يكفى من الإخوة ــ الأعداء، وقد غادرت الجامعة دورها العتيد منذ زمن بعيد، وصار قرارها للأغنى وليس للأكبر أو لصاحب التاريخ والدور والتضحيات من اجل حفظ هوية الأمة وقدرتها على حفظ حقوق شعوبها.

 

وها أن القمة الأخيرة لا تجد ما تقدمه لشعب فلسطين إلا التذكير بالمبادرة السعودية لمناسبة تجاوزها سن العاشرة (أقرت فى قمة بيروت فى عام 2002)، مشفوعة بهدية قطرية تشكل تحديا لسائر أعضائها الفقراء: إذ قدمت قطر، فورا، مبلغ مائتين وخمسين مليون دولار من أصل مليار دولار قررتها القمة (والمعنيون يعرفون أن المال لن يصل إلى الذين يحتاجونه فى الأرض الفلسطينية المحتلة).

 

هذا بينما إسرائيل تواصل الضغط على أهل الضفة الغربية الذين يعشون على «صدقة» تدفعها بعض الدول الغربية، وهبات هيئات تقدمها بعض الدول العربية، فى حين تمضى قطر فى تحويل غزة من قاعدة لحماس إلى مشروع مونتى كارلو تفيد فى اجتذاب السياح، بعد تدجين الإسلام السياسى بالدولار المعزز بالحصار، وألف رحمة على شهداء التحرير.

 

مع كل قمة يتساءل المواطن العربى: هل وصلنا إلى القعر أم ما زال علينا أن نقدم المزيد من التنازلات لإثبات جدارة دولنا بأن تكون دولا حقا وجدارة هذه القيادات بان تقودنا إلى مكان ما غير فقدان المكانة والدور.. والهوية الجامعة؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved