أمريكا القابلة للكسر!
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 3 يونيو 2020 - 6:20 م
بتوقيت القاهرة
أسمع هذه الأيام عتابا لأمريكا من أصدقاء لها وحلفاء لم أسمع مثله منذ أيام الحرب الباردة، وأسمع انتقادات أعنف من كل ما سمعت من قادة وصناع رأى قابلتهم على امتداد فترات عملى وتنقلاتى فى الشرق والغرب. أستمع على وجه الخصوص إلى ما يقوله الصينيون. أسمع وأتفهم ولكنى أقلق. بعض الانتقادات المتبادلة بين الأمريكيين والصينيين خرجت عن حدود مألوفة لتنقل سباق القمة إلى مستوى شائك. بلغنى من أصدقاء أمريكيين أنهم خلال اتصالات جرت هذا الأسبوع مع مسئولين صينيين كبار اشتموا رائحة الشعور بالإهانة. عاد الصينيون حكومة وشعبا يسمعون فى تصريحات مسئولين أمريكيين وعلى رأسهم الرئيس ترامب مفردات خطاب هيمنة. هى نفس المفردات التى سبق أن أفرط فى استخدامها المبعوثون الإنجليز فى القرن التاسع عشر. وقتها كانوا يعدون لإدارة معارك دبلوماسية متناثرة بغرض إذلال الإمبراطورية الصينية ودعك أنفها تمهيدا لشن حرب الأفيون. أعرف كم هى محفورة تفاصيل تلك الأيام فى الذاكرة الصينية.
نتابع، نحن الأعضاء فى جماعات المهتمين بتطورات سباق القمة، بقلق متزايد تدهور لغة الخطاب فى هذا السباق، ونتابع بقلق أشد أخطاء القادة على الجانبين وهى تزداد عددا وتتفاقم نوعا وتكلفة.
أذكر مثلا أننى فى مرحلة مبكرة من ولاية الرئيس ترامب ركزت فى كتابات لى على أهمية أن يتفادى الطرفان السقوط فى بالوعة الانفاق على التسلح بأرقام مبالغ فيها فينتهى الأمر بكليهما، وفى أحسن الظروف، إلى الإهمال فى الانتباه إلى مشكلات اجتماعية كان يجب حلها قبل الانغماس فى سباق نعرف ويعرفون مسبقا أنه سيكون رهيبا. أو ينتهى، فى أسوأ الظروف، بسقوط أحد المتسابقين وخروجه نهائيا من السباق. حدث هذا مع الاتحاد السوفيتى فى عقد الثمانينات من القرن الماضى. حدث عندما خرجت روسيا من السباق منهية عصر القيادة الثنائية للنظام الدولى ومدشنة لحظة الأحادية القطبية.
تشاء الظروف أن نكون اليوم شهودا على أحداث، أو قل أخطاءا، تكاد تتكرر بحذافيرها. نشهد انغماس الولايات المتحدة فى الانفاق على مشتريات السلاح فى وقت ساد فيه اقتناع بانحدار قوتها الكلية ومكانتها. لست الوحيد الذى يعتقد أنها دخلت دورة السقوط. دخلتها دون إعلام أو إعلان. ها هى واشنطون تكرر الخطأ الذى ارتكبته موسكو فتدخل سباق تسلح فى لحظة انحدار. اليوم واشنطون تنافس الصين المتسابق الأصغر سنا والمتجدد شبابا وإبداعا ونفوذا وطاقة حشد ودواعى عز وفخر. تشتبك معها بمجتمع متنافر الهويات وبنخبة سياسية هالكة واستقطابات حزبية حول قضايا ثانوية. أهملت واشنطون، قبل أن تدخل السباق، حل مشكلات اجتماعية وسياسية عويصة، أهمها على الاطلاق، البطء فى تخطيط عمليات التجدد الحضارى وتشكيل وعى وطنى حولها.
***
أتصور أن الصينيين كانوا يرغبون فى تفادى تصعيد لغة السباق خلال العام الحالى لتفويت الفرصة على الرئيس ترامب الباحث عن قضية خارجية يلتف حولها الناخبون الأمريكيون فيصوتون له فى نوفمبر القادم. يبدو أن أحد المستشارين أسر للرئيس ترامب بنصيحة مفعولها كالسحر. أتخيل أنه طلب منه توجيه رسائل متتالية إلى بكين تحمل طابع الإهانة وتتهم الممارسات السياسية الصينيىة بالمراوغة أو الكذب. طلب آخرون من الرئيس أن يكرر تهديده بالتدخل دفاعا عن حقوق الشعب المسلم فى مقاطعة سينكيانج وعن تطلعات شعب هونج كونج فى حكم ذاتى غير محدود بتاريخ. كنت منذ بداية السباق مقتنعا بأن الصين بعد أن قضت ثلاثين عاما تنتقل من صفحة إلى صفحة أخرى أكثر لمعانا فى تاريخ تحضرها سوف تحتاج قرب نهاية الطريق إلى عقد أو عقدين من الاستقرار فى علاقاتها بالولايات المتحدة لتتأكد من أنها جاهزة بنموذج حضارى خاص بها وإنجازات مبهرة. كان لديهم فى الصين أمل بأن الطبقة المالية فى الولايات المتحدة مع طبقة رجال الأعمال لن يسمحا للرئيس ترامب بأن يغالى فى مطالبه من الصين. كلاهما مستفيد من العلاقات الطيبة التى استمرت بين الصين وأمريكا زهاء ثلاثين عاما. لذلك كان وقوفهما إلى جانب الرئيس ترامب خلال مختلف مراحل حروبه التجارية ضد الصين تطورا مثيرا للدهشة. خطأ آخر من أخطاء عديدة وقعت فيها الطبقة الحاكمة الأمريكية.
***
استفدت كثيرا فى سنوات اهتمامى بصعود الصين بكتابات المتخصصين فى الشئون الصينية من مفكرى دولة سنغافورة وآراء قادتها. لم يخطئ لى كوان يو فى نصيحة واحدة من نصائح عديدة وجهها لزعماء جنوب وجنوب شرقى آسيا بخصوص مستقبل علاقاتهم بالعملاق الصينى فى وسطهم. توقع، هو وغيره من السياسيين بعيدى النظر، أن يوما سيأتى تضغط فيه القوى الغربية وأمريكا على رأسها على دول آسيا لتقرر رفضها القاطع للنموذج الصينى فى النمو والتعمير، وفى الحكم. كانت نصيحته لهم جميعا ولكثيرين فى عواصم أوروبا أن يثقوا فى أن حكام آسيا بطبيعتهم وطبائع شعوبهم وثقافتهم لن يختاروا النموذج الغربى، حتى تحت أقسى صور الضغط ورغم أشهى المغريات.
أظن أننا نقترب بسرعة من هذه اللحظة، لحظة الاختيار بين نموذجين فى الحكم والإدارة وتحقيق الاستقرار والمساواة وارتفاع مستوى منظومات الرعاية الاجتماعية واعتماد مبدأ الكفاءة فى اختيار موظفى الدولة ونخبها العلمية والتكولوجية. لا شك عندى فى أن النموذج الصينى لو طرح اليوم لفاز بدون شك. تستطيع الصين أن تطرح بكل بساطة المقارنة بين ما حققته الولايات المتحدة وما حققته الصين من انجازات اجتماعية خلال الثلاثين عاما الأخيرة. الإجابة فى كلمات معدودة. الصين أخرجت ثلاثمائة مليون نسمة من تصنيف الفقر بينما اتسعت إلى حدود غير مسبوقة فجوة اللامساواة بن أغنياء أمريكا وفقرائها. يمكن أيضا للصينيين تأكيد هذه الإجابة بصور تلفزيونية لمشاهد لا تزال ساخنة. سوف تبقى المقارنة حية بين صور عنف فى هونج كونج وأحداث ثورة غضب واحتجاج على سياسات وسلوكيات التمييز العنصرى فى منيابوليس وما لا يقل عن سبعين مدينة أخرى فى الولايات المتحدة وبينها واشنطون عاصمة العالم الديمقراطى الغربى.
***
من ناحية أخرى تستطيع الصين أن تقف أمام دول العالم النامى منتصبة القوام تزهو بحسن إدارتها لأزمة الصين مع فيروس الكورونا. لن يخلو الزهو من فجوات وقصور وأخطاء شابت تصرفات حكومة مقاطعة ووهان وقيادة الحزب الشيوعى الصينى خلال الأسابيع الأولى من الأزمة. أخشى استباق نتيجة السباق بتكرار الحديث عن انجراف فى قلب المعسكر الغربى، بل وفى أمريكا نفسها، نحو شعبويات قومية وعنصرية وميل متزايد نحو الانبهار بكفاءة الأداء فى ظل الحكم السلطوى الأمر الذى يهدد أسس الديمقراطية الغربية.
أمريكا فى خطر لأن التجديد لم يمس منذ زمن غالبية مكوناتها. أمريكا، من وجهة نظر مراقب خارجى، صارت دولة قابلة للكسر، وما ترامب بصراخه وسلاسل كذبه ولغات جسده وخروجه المتعمد عن المألوف فى تقاليد الحكم سوى مؤشرات على شروخ فى البنى الأمريكية. أخاف على سلام العالم من رجل فقد اتزانه فى لحظة أزمة فوقف على باب كنيسة يستجدى العطف.
***
أعرف كثيرين أعربوا عن القلق من آثار وخيمة على مسيرة العلاقات بين الصين وأمريكا قد تنجم عن تطورات مؤسفة فى الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، ومن آثار أبعد لسباق القمة على مستقبل الحياة السياسية فى الولايات المتحدة.