الشعب والقيادات والدولة

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأحد 3 يوليه 2011 - 8:36 ص بتوقيت القاهرة

مزاج الشارع المصرى يتغير. كان الثلاثاء ٢٨ يونيو يوما فاصلا، وجاء على تراكمات من أحداث وأوضاع مثيرة للقلق، فبدأ الشارع يفقد صبره.

من كان فى التحرير مساء الجمعة (أول يوليو) لابد أنه شعر بالتغيير فى مزاج الميدان. ومن كان فى القائد إبراهيم فى ذات الصباح شعر بنفس التغيير. نعم، الناس لا تزال تتحادث، وتصطحب الأطفال، وتبيع وتشترى، لكنها فى حالة ترقب: تتبادل الشائعات، تتخيل سيناريوهات الجمعة القادمة، وترفض تماما ــ وأحيانا بعنف ــ تواجد السلطة فى الميدان.

شعارات تظهر لأول مرة: كثيرون يمشون بلافتات (على درجات متفاوتة من مهارة الصنع) تعلن «أنا بلطجى»؛ الاستجابة السريعة، الفطنة، الموجزة، للسرد الذى تحاول السلطات وإعلامها أن تروج له من ان كل من كان فقيرا وتواجد فى مساحة الثورة فهو بلطجى. عندنا، عند الشعب، وعند الثورة، البلطجية هم من يؤجرون لترويع الناس. فقط.

وليس من شروط البلطجة أن تكون فقيرا ــ المهم أن ترتزق من ترويع الناس.

التغيير فى مزاج الشارع يجب أن تعيه «النخبة» والقيادات السياسية على أنه إنذار أخير لها. فقد مر الآن ما يزيد على أربعة أشهر منذ نجح الشعب فى إزاحة رأس نظام فاسد قاتل خانق مميت، وفَتَح المجال أمام النخب ومن طالما قدموا أنفسهم كقيادات سياسية وطنية للبلاد، وقال لهم: تفضلوا، لكم القيادة.

لم نر قيادة، ولم نر تلاحما مع الشعب، ولم نر نقاشات جادة حول الأسئلة الكبرى، ولا برامج أو رؤى أو خطط عمل ــ اختزل كل شىء فى جدل حول «الدستور أولا» أم «الدستور ثانيا»، وتُركْنا نهبا لمخططات تحاك من طرة إلى شرم الشيخ إلى تل أبيب وواشنطن، أدت إلى انفلات أمنى مصطنع، وركود اقتصادى جزء منه متعمد والآخر مترتب على الانفلات الأمنى.

المجلس العسكرى يقوم بواجبه ما استطاع لكنه فى النهاية عسكرى، نتج عن تعامله مع الشارع إلى الآن أكثر من عشرة آلاف مدنى محكوم بمحاكمات عسكرية. الكل يرى خير البلاد فى ان تعود القوات المسلحة إلى موقعها الطبيعى فى حماية حدود الدولة. والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يعلن أن الانتخابات فى سبتمبر ــ ولا تزال الكثير من القيادات السياسية تحاور نفسها، وتطلق شعارات تؤدى إلى الفرقة.

لو كنا فى وضع مثالى، أو حتى محايد، كان المنطقى فعلا ان نكتب دستورنا أولا، ثم ننتخب على أساسه ــ هذا لو كانت الحكومة قادرة على تسيير أعمال البلد على طريق الثورة، لو كان الناس يشعرون بالأمان فى الشارع، لو كان العسكرى أبو بندقية لا يقدم الشباب لمحاكمات عسكرية، لو كان الغرب ليس فى حالة تأهب للانقضاض علينا بالأموال والمشروعات والخبراء والبرامج التدريبية وكل وسائل الاستعمار الحديث. أما اليوم، والحال على ما هو عليه، فمن غير المعقول أن نطلب الاستمرار فيه حتى كتابة الدستور.

الشرخ الأكبر فى صفوف القوى الوطنية اليوم هو فى شأن «لون» الدستور، ومن يقوم بكتابته. هناك إحساس عام بأن منطق تغليب الأغلبية لا يناسب عملية وضع الدستور، هل لنا أن نطرح أن تتوافق القوى الثورية على كيفية تشكيل لجنة صياغة الدستور، بهدف أن نصل إلى صيغة يعلن كل من سيترشح للانتخابات النيابية التزامه بها؟ ونجتهد، وتجتهد جهات مختلفة، لبلورة مقترحات فى هذا الموضوع، فنتوصل إلى بلورة تصور للتكوين الأمثل للجنة، ولآليات الوصول إلى ذلك التكوين؟

انطلق مؤخرا نداء (موجود على موقع:

http://www.ipetitions.com/petition/together_to_save_our_revolution/).

وموجه إلى «كل من لايزال يحلم بوطن ينعم ابناؤه جميعا بالكرامة والحرية والعدالة» يطالب بوحدة الصف، «لنُظهر للجميع اننا مازلنا قادرين على العمل معا فيما يجمعنا، وأن تطهير مؤسسات الدولة ــ خاصة وزارة الداخلية ــ من الفاسدين، والقصاص من القتلة، وناهبى ثروات شعب مصر، مازال هدفنا جميعا».

نتحدث عن هيئات فى الدولة تحتاج إلى تطهير؛ من سيطهر نفسه بنفسه، ومن سيخضع للتطهير من خارجه. جاءت لحظة التطهير للنخبة القيادية. وهى الآن لحظة تطهير للذات. والقيادات والنخب فى معظمها مشهود لها بالوطنية، وبأنها تحب البلد وتريد له الخير. فعليها الآن ــ على كل فرد فيها ــ أن يجلس مع نفسه، وأن يراجع أولوياته، أن يستوضح مع نفسه أيا من مواقفه يتسق مع حسه الوطنى وأيا منها مع انحيازه الحزبى أو الإيديولوجى؟ وأيا من مواقفه سوف يستطيع بعد ٥ أو ١٠ سنوات أن يقول بصدق وبقوة إنه لم يتخذها إلا حرصا على مصلحة الوطن.

لن تستقيم الأحوال إلا إذا اتفقت القوى، بشكل علنى وواضح، على خطوات عملية محددة، وعلى جدول زمنى لما تبقى من الفترة الانتقالية. هذه هى مصلحة البلاد: أن تتفقوا اليوم ــ كما اتفق الشعب فى يناير ــ على هدف واحد كبير يجُبَّ كل المصالح الذاتية؛ والهدف اليوم هو أن نمشى معا فى طريق واضح المعالم نحو آلية ديمقراطية تفرز كيانا سياسيا واجتماعيا يمكننا من النهوض بالبلاد بما يفيد أهلها.

المطلوب من القيادات الآن، الآن، الآن، أن تتفق على شكل المرحلة القادمة، أن تتفق على خطوات محددة، وجدول زمنى يلتزم به الجميع، وأن تنزل إلى الشارع وتستمع إلى الناس وتعرض ما عندها على الشعب. على القيادات أن تقود البلد إلى بر الأمان، فنصل إلى عيد ميلاد الثورة الأول وعندنا برلمان، ورئيس، ودستور، وجيش قوى يحمى حدودنا وسيادتنا، وشرطة تؤَمِّننا، وبدايات نهضة مؤسسة على التنمية الشاملة والمستدامة، تؤثر إيجابا فى أحوال الناس التعليمية والصحية، وتعالج مشكلات البطالة والإسكان، وسياسة خارجية تعكس مصالحنا ورؤانا ــ أى أن نكون وبوضوح سائرين على الطريق الذى رسمه الشعب حين قال: عدالة اجتماعية، عيش، حرية، كرامة إنسانية.

الشعب عمل اللى عليه، أما القيادات ــ إن لم تنجز فهى لا تلزمه. فالحقيقة ان الشعب أثبت، وقت الثورة، فى الإسكندرية والسويس قبل القاهرة، أنه قادر على أن يدير أموره بدون دولة ــ لكنه راغب فى أن يكون لديه دولة؛ طبع متأصل منذ خمسة آلاف سنة. وهو يجاهد اليوم ليتمسك بقدر من الإيمان فيما تبقى له من مؤسسات، كاد أن يفقد الثقة فى المؤسسة القضائية وفى إمكانية تحقيق العدالة، وفى المؤسسة العسكرية التى تسارع باحتجاز أبنائه وتمريرهم ــ وهم المدنيون ــ فى محاكمات عسكرية عاجلة وصارمة، وفى الأحزاب والقوى السياسية التى تبدو غير قادرة على النظر فى أى مكان سوى مرآتها هى، وما تراه أعداءها هى.

اليوم لن ينجح فى استرجاع ثقة الشعب إلا من يتقدم، بوضوح باهر وعلانية، ببرنامج محدد، ملموس، مرتبط بجدول زمنى، وفوق كل هذا برنامج ثورى، ينحاز إلى الشعب، ويخاطب رغبته الأكيدة والمشروعة فى العدالة الاجتماعية، والعيش، والحرية، والكرامة الإنسانية.

مهمة القيادات هى تفصيل الدولة التى يريدها الشعب. ولكى تقوم بذلك يجب أولا أن نمر من هذه المرحلة الانتقالية بسلام. فهذا هو واجبها الأول.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved