الصين.. إمبراطوريًا!

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 3 سبتمبر 2015 - 12:45 م بتوقيت القاهرة

اهتزت بورصة فى الصين، فأصيب الاقتصاد العالمى بهلع. راح سياسيون يدققون فى استراتيجياتهم، ورجع بعض كبار علماء السياسة إلى كراريسهم ينقحون ما شاب بعض صفحاتها من قصور فى الرؤية، بينما عاد آخرون إلى تلاميذهم وقرائهم لتأكيد تصورات بدت على وشك أن تتحقق. كان من أغرب ما قرأت هذا الأسبوع ما كتبته خبيرة اقتصادية غربية تعقيبا على هزة البورصات. كتبت تحذر من عواقب جسيمة على الاقتصاد العالمى «نتيجة نقص الخبرة وقلة التجربة الرأسمالية لدى النخبة الحاكمة فى الصين».

•••

تعرفت مبكرا على الثورة الصينية. عرف عنى منذ ذلك الحين ميلى إلى تيار شبابى نقدى رفض أفراده السير عميانا فى ركاب الفكر السياسى الغربى، سواء ما صدر منه عن الشرق الأوسط والعالم الإسلامى تحديدا أو ما صدر عن الشرق الأقصى والصين بخاصة. تعلمت من احتكاكى بتجارب آسيوية أن مسيرة الأمم لا تتوقف بنشوب ثورة فاشلة أو بنجاحها، كما أنها لا تتوقف بنشوب الحروب ووقوع الكوارث حتى وإن كانت مدمرة. مسيرة الصين فى العصر الحديث لا تختلف عن مسيرات دول «تاريخية» أخرى. مرت مثل غيرها من الثورات بمراحل وإن بدت كل واحدة فيها مختلفة عن سابقاتها، إلا أنها فى واقع الأمر ليست سوى خطوات متصلة على الطريق نحو هدف واضح. هذا الهدف هو استعادة امبراطورية الصين العظمى. نعرف الآن أن العباقرة من قادة الاستعمار الغربى قرأوا تاريخ الصين، وعرفوا أن للصينيين منذ القدم طموحات تجاوزت حدود الصين الجغرافية والثقافية، وأن جميع عهود «العظمة» فى الصين اهتمت ببناء القوة العسكرية والإدارية القادرة ليس فقط على حماية أراضى الصين الشاسعة، بل والجاهزة للدفاع عن طرق التجارة ضد غزوات وتجاوزات «البرابرة»، أى الأجانب، كل الأجانب. عرف القادة « البرابرة» أن الصين إذا نهضت فنهضتها ستكون على حساب الغرب. لذلك تكالبوا عليها لوأد أجنة النهضة أينما وجدت.

•••

تصورت دائما، أو على الأقل منذ أن تعرفت على الصين، أن مرحلة الرئيس ماو فى إدارة دفة الصين، ثورة ودولة، كانت المرحلة الأم والأهم فى مسيرة بناء الصين الحديثة. بقليل من المبالغة وكثير من التعاطف أعتبرها المرحلة «التى لا غنى عنها»، بمعنى أنها لو لم تقع، لما قامت الصين الحديثة ولما كنا نتحدث اليوم فى هذه السطور عن إمبراطورية جديدة توشك على البزوغ. لقد قاد ماوتسى تونج مرحلتين أساسيتين. قاد مرحلة الثورة، وهى المرحلة التى خطط لها لتحقق شرطين ضروريين لقيام دولة عصرية، أولهما تحديث الفلاح الصينى، بمعنى اقناعه بأهمية التخلص من عناصر الاقطاع، وبخاصة من البيروقراطيين الكبار وأمراء الحرب، وأهمية أن يتحرك، بمعنى التمرد على المكان والتقاليد التى أخضعته لقدر أو مصير ليس من صنعه. الشرط الثانى لخصته حملة ماو العسكرية والثورية لاستعادة التوازن بين الداخل الصينى الذى أصابه الاهتراء الاجتماعى وبين الساحل حيث تراكمت أكوام الفساد وقوى الاستعمار الغربى واليابانى وقلاع تجارة الأفيون وشركات شراء النساء والأطفال. هناك على الساحل تعيش الصين المختلفة جذريا عن الصين المقيمة فى الداخل، ولم يكن متصورا بأى عقل أو خيال فى ذلك الحين أن تندمج «الصينيتان» فى دولة واحدة، ما لم يتم القضاء بشكل قطعى وحاسم على فساد الساحل. وبالفعل حوصر الساحل من كانتون فى أقصى الجنوب إلى تيينسين شرقى بكين فى أقصى الشمال بقوى الثورة المسلحة التى قامت بتطهيره قبل السماح له بالعودة إلى الوطن.

•••

بدأت المرحلة الثانية بإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية وتولى ماو رئاستها، وهى المرحلة التى شهدت استخدام أقصى درجات العنف والقمع والتوعية والإصلاح لتخليص البلاد، بساحلها وداخلها، من أمراض عصر الامبريالية الغربية. وقتها كتب مفكرون غربيون عن شعور المهانة الذى كرسه الاستعمار الغربى بكل الأدوات والصور الممكنة، من لافتات على مداخل مبانى ونواصى شوارع فى العاصمة بكين وجميع مدن الساحل تحظر على الكلاب والصينيين دخولها، إلى تقسيم شنجهاى مثلا إلى إحياء كل حى منها يحمل علم دولة غربية.

كان لابد فى تلك المرحلة الثانية بث الشعور بالكرامة لدى الفرد، وهو ما استدعى توظيف الناس فى أعمال إنتاجية ولو صورية فى البداية، مثل تشغيل أفران صهر الحديد والصلب التى كانت تقام فى الشوارع وداخل المجمعات السكنية. كذلك استدعى القضاء، بالعنف أو بالإقناع، على عادة تعاطى المخدرات وإخلاء الأزقة والشوارع من القمامة وطلاء المبانى. استدعى أيضا عزل البلاد بشكل كامل عن العالم الخارجى، والاعتماد على الناتج المحلى لتوفير الحد الأدنى من الغذاء والكساء، وتعبئة الرأى العام وراء شعار «سنتفوق على بريطانيا العظمى». الهتاف الذى اصبح حقيقة.

•••

الثمن باهظ. ولكن هل كان يمكن لأمة ممزقة الأوصال، مستباحة ثرواتها وعقولها وتقاليدها وفاقدة لروحها أن تستقل وتستعيد كرامتها ثم تنهض بدون أن تدفع ثمنا باهظا؟ هل كان يمكن للصين التى عرفناها من كتب الرحالة ورسائلهم ومذكراتهم منهارة ومهلهلة أن تبدأ عملية بناء الدولة الحديثة بدون المرور بتجربة بناء الفرد المنتج؟ دفعت الصين الثمن وكان بالفعل باهظا. دفعته تحت اسم ثورة ثقافية زهقت فيها أرواح وأهدرت مصالح وضاعت وظائف واختفت قيادات وانتشرت فوضى رهيبة وخلت الساحة السياسية إلا من بعض من كانوا الأصغر سنا فى جيل الثوار الأوائل.

•••

أفرزت الثورة الدائمة، فى صيغتها المسماة بالثورة الثقافية، دنج تشاوبينج وجماعته التى جاءت إلى السلطة فى أمة موحدة ودولة قوية وشعب متعلم ومدن وقرى تطهرت من الاقطاع والأفيون وعصابات الإجرام. جاءت فى أمة جاهزة للانتقال من مرحلة بناء الدولة القوية إلى مرحلة بناء الدولة الحديثة والانفتاح على العالم. عقد الزعيم الجديد العزم على صيغة بناء مختلفة ايديولوجيا واختار ثلاث وصايا لخلفائه أثبتت التجربة جدواها وحكمتها. أوصى بأن يأخذ الاقتصاد مناحى محلية تتمتع بحرية بعيدا عن تدخل السلطة المركزية، واعيا إلى أن هذه الحرية تعنى أن مناطق فى الصين ستتقدم اقتصاديا بينما تبقى مناطق أخرى متخلفة، ولكن مقدرا أن المد التنموى سوف يرفع جميع القوارب. أوصى ثانيا بمنع أى فرد فى السلطة من السيطرة على النظام السياسى بحيث لا يقوم فى الصين ماوتسى تونج آخر، فتقرر فى التنظيم الجديد ان يكون القرار السياسى توافقيا بين اعضاء قيادة الحزب، وأن لا يسمح لتيار أو شلة بالاحتفاظ بنفوذ قوى على حساب قوى أخرى فى الحزب. أوصى ثالثا، بأن تمشى الصين فى مساراتها الخارجية وعلاقاتها الدولية بتؤدة ونعومة. بمعنى آخر تتفادى الصين الظهور بمظهر العنف أو التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى أو التفاخر بالقوة العسكرية، وذلك حتى يكتمل بناء الدولة الحديثة. وبالفعل اكتمل بناء الدولة الحديثة بفضل التزام خلفاء الرئيس دنج بوصاياه، نما الاقتصاد بنسب مذهلة وتحقق الاستقرار السياسى والاجتماعى. حدث هذا رغم التطورات الاقتصادية الهائلة والتوترات الاجتماعية الناتجة عن الهجرات الداخلية واتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء.

•••

فجأة، أفاق العالم ليجد نفسه أمام بوادر تجربة فريدة فى التاريخ. وجد نفسه شاهدا على محاولة إقامة امبراطورية فى عصر «لا امبراطورى» وهو العصر الذى دشنه انسحاب بريطانيا من شرق السويس وانسحاب فرنسا من الهند الصينية. نحن جميعا شهود على تجربة فريدة، تجربة إمبراطورية تنهض بها دولة من العالم النامى. هذا فى حد ذاته تطور مذهل ومع ذلك يبقى الأمر المثير للغاية، حسبما لفتت نظرى إليه الدكتورة نهى المكاوى أستاذة العلاقات الدولية، هو أن هذه الإمبراطورية ستكون الأولى التى تقوم من مركز كثيف السكان ومقدر أو مخطط لها أن تهيمن على هوامش أقل كثافة سكانية على عكس جميع التجارب الإمبراطورية السابقة. كانت الإمبراطورية التقليدية تقوم من مركز صغير المساحة قليل السكان، هكذا قامت إمبراطوريات هولندا والبرتغال وإسبانيا وبريطانيا وبلجيكا بشعوب صغيرة هيمنت على أراضٍ شاسعة وشعوب كبيرة لسنوات بل لقرون عديدة.

•••

من حسن حظنا، كمراقبين أو دارسين للعلاقات الدولية، أن نكون شهودا على خطوات قيام أول امبراطورية فى التاريخ الحديث، أى فى عصر الحقوق السياسية والثورات المدنية والاحتجاجات الاجتماعية، عصر الرفض العنيد والمتجدد للظلم والهيمنة الخارجية واللامساواة. من حسن حظنا أيضا أن نكون شهودا على شعب المليار وثلاثمائة مليون نسمة يستعد لصياغة علاقة امبراطورية جديدة مع شعوب المليون نسمة والخمسة ملايين والمائة مليون، وأن نكون شهودا فى السنوات القليلة القادمة على توقيع حزم من الاتفاقات التى ستعقدها الصين لتدفع بها عن نفسها تهمة «الاستعمار الجديد»، خاصة وأننا رأينا بالفعل اتفاقات تسمح للصين باستغلال منابع نفط ومناجم وموانى لسنوات وعقود عديدة، والحصول بموجبها على امتيازات استثنائية، والتمتع، وهو الأمر شديد الخطورة، بحق «الاستيطان المؤقت» لأعداد غفيرة من العمال والموظفين الصينيين فى مواقع الاستثمارات الصينية فى الخارج، متعة للمتخصص فى الدبلوماسيات الحديثة والعلاقات الدولية لا تعادلها متعة أخرى، مراقبة الصين وهى تخطو خطواتها الإمبراطورية، الواحدة بعد الأخرى.

•••

عصر مختلف يجب أن تتهيأ له حكوماتنا وهى تتفاوض مع حكومة بكين على استثمارات طويلة الأمد فى اتفاقيات جديدة. تتهيأ له بأن تقرأ بإمعان كل سطر وكل كلمة فى هذه الاتفاقيات وتتوقف بين الفقرة والفقرة لتفكر، قبل أن توقع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved