وبعد أمى.. لا شىء إلا الصمت

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الخميس 3 أكتوبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

يمضى الوقت وأنا فى بيتها أنتظر، أن أراها جالسة على مقعدها الأثير أو أن أراقبها، وهى تتحرك بين الغرف أو أن أقترب من غرفة نومها، وأستأذن فى الدخول أو أن أنظر إلى وجهها، وهى تودعنى مبتسمة وببريق عينين لم يكن إلا لها. يمضى الوقت، وأنتظر ولا تأتى أمى وتطارد عينيى صور ومشاهد الأمس البعيد والقريب، لكى تمسك بها فى صمت. كانت أمى تحب أن تذكرنى بأننى فى سنوات عمرى الأولى كنت أركض وراءها فى كل مكان ولا أبتعد عنها أبدا.

كانت تروى لى ضاحكة كيف أننى وفى عامى الثانى سقطت فى مياه مخصصة لغسل الملابس لأنها انحنت لتضع بعض قطع الملابس فانحنيت وراءها وفقدت توازنى وسقطت. وكيف أننى وفى عامى السابع، وبعد أن أغضبتها ذات مساء ولم تقبل هى اعتذارى أيقظتها وكل من فى البيت فى السادسة صباحا على صوت فايزة أحمد وأغنية «ست الحبايب» يرددها جهاز «كاسيت» صغير وضعته أمام غرفتها ورفعت صوته إلى الحد النهائى، وجلست بجواره أنتظر خروجها، وأتذكر أنا ابتسامتها الصافية واحتضانها الدافئ لى، وهمسها بعبارة «خلاص سامحتك يا عمرو، ما تعملش كده تانى»، ودعوتها لى لكى أنام بينها وبين أبى رحمه الله.

وكيف إننى وأختى هبة وأخى أحمد كنا نفهم لغة عينيها جيدا، فهذه نظرة توديع الضيوف والذهاب إلى غرفنا إما لأداء الواجبات المدرسية أو لأن «الكلام كلام كبار»، وهذه نظرة خفض الصوت لأن صوتنا مع أقراننا ارتفع أكثر مما ينبغى، وهذه نظرة توجيه الشكر لمستضيفينا إيذانا بالانصراف، وهذه نظرة ضرورة الاعتذار عن فعل غير مقبول بدر منا. لا تذكرنى صور ومشاهد الأمس البعيد بأمى إلا وهى تجتهد لإسعادنا، وتسخر كل طاقتها، بعد إرضاء الله ومع الاهتمام بأبى، لتربيتى وأخوتى على الحب والصدق والاحترام والإخلاص. كانت تدرك أن لها تصورا محددا عن نسق التربية الجيدة، وتفهم أن مساحة الحرية، التى أتاحتها لنا فى سنوات العمر الأولى لم تكن بالواسعة، إلا أنها كانت على يقين بأن هذا هو السبيل الوحيد لمنع الاعوجاج فى تطورنا الشخصى ووضعنا على مسار تحقيق الذات، وتحمل مسئولية النجاح فى الحياة. فى سنوات العمر الأولى هذه، كنا نتمرد أحيانا، وكان أبى يتدخل فى أحيان أخرى لانتزاع قبول أمى لبعض الخروج على نسق تربيتها، وكانت هى تصر على أن تربية ثلاثة أطفال مهمة عسيرة تتطلب بجانب الحب واللين الخطوط الفاصلة بوضوح بين المقبول والمرفوض. ولم يكن معنى ذلك أبدا بعد أمى عنا فى اللحظات والمراحل التى كانت تستدعى الاستماع إلى همومنا الصغيرة وسبر أغوار شخصياتنا على اختلافها، كانت دائمة السؤال عما أقرأ ومناقشتى فيما أفكر به، ولم يكن لدىّ من دافع حقيقى لأكتمها أى أمر من الأمور إلا لفترات قصيرة يتبعها اعتراف واضح ومفصل. تذكرنى صور ومشاهد الأمس البعيد بأمى، وهى شديدة الاعتزاز بأصولنا الصعيدية وببلدتنا، قرية المحرص فى محافظة المنيا. «لما يسألوكوا فى المدرسة انتو منين، تقولوا إحنا من المحرص فى المنيا»، كانت أمى تقولها باستمرار وكانت لحظات سعادتها ونحن فى «البلد» فى العطلات المدرسية والأعياد لا تضاهيها أو تقترب منها لحظات أخرى. لنا أقارب كثر فى قرى ومدن محافظات بنى سويف والمنيا وأسيوط، وظروف معيشة الناس تختلف باختلاف حظوظهم من التعليم والعمل والملكية الخاصة، إلا أن أمى كانت أمامنا ووراءنا لنفهم أن هؤلاء هم «أهلنا» وأن احترامهم ومعاملتهم بموفور الأدب والكرم «واجب»، وأن بيتنا فى مصر (القاهرة) يجب أن يظل دوما مفتوحا لهم ولأسرهم. ولم يكن أبى، وأمى كانت ابنة عمه، يختلف عنها هنا فى شىء ومنهما تعلمت وأخوتى «الأصول» إلى الحد الذى أصيب معه أخى أحمد، وهو صغير بتلبك معوى حاد بعد مساء أمضيناه فى ضيافة أهلنا بالصعيد لإفراطه فى تناول أكواب الشاى لأن «تعليمات ماما وبابا» كانت عدم رفض أى شىء يقدم لنا فى بيوت الأهل لكى لا يفسر ذلك على نحو سلبى. فى صمت تأخذنى صور ومشاهد الماضى البعيد إلى لحظات الحزن فى حياة أمى. فى «البلد» ونحن صغار كنا نذهب برفقتها إلى زيارة قبر والدها (المنامة كما نسميها)، وهو أيضا قبر جدتنا وجدنا لأبى (أى أم وأب أبى)، وكانت أمى تقرأ القرآن وتبكى بكاء شديدا وتترحم على الجميع، وتتذكر الأب الذى تركها، وهى صغيرة مرددة «يا عينى يا أبويا» فى حزن عظيم. وكنت أعلم أن أباها قد مات منذ سنوات طوال وأتعجب من عظم الحزن على الرغم من مضى الزمن، وحين عبرت لها عن ذلك ذات مرة ونحن نغادر المنامة، قالت: «يا حبيبى وجع الفراق عمره ما بيروح»، وابتسمت لى على عجل. وحين فارقنا أبى، وأمى بالكاد تجاوزت عامها الثانى والأربعين ومنعتنى طقوس العزاء الصعبة فى بلدنا من رؤيتها لعدة أيام، كانت صدمتى عند رؤيتها والنظر إلى وجهها الذى ضاعت نضارته وتتبع الطرحة السوداء التى ارتدتها للمرة الأولى فى حياتها لا تقل عن حزنى على فقدان أبى. على شدة حزنها ولوعتها لفراق أبى، الذى أحبته قبل أن يتزوجا (منذ بضع سنوات عثرت على خطابات حب موجهة من أبى إلى أمى وحين أظهرت الخطابات لها ضحكت وقالت: «ما ليكش دعوة بحاجات الكبار»)، تماسكت أمى وأتمت مهمة تربيتنا وفقا لنسقها بحب وحرص رائع على التفاصيل وساعدتنا على أن نبدأ حياتنا المستقلة دون الأعباء التقليدية لمن فقدوا الأب فى لحظة متقدمة من حياتهم. وكسنة الحياة اختلفت مع أمى أكثر من مرة، فهى لم تكن دوما مقتنعة باختياراتى أو راضية عنها، غير أن حبها لى ويقينها بحبى لها كانا أكبر من أن تجافينى إلا لفترات قصيرة تبعها السماح لى بالاقتراب مجددا، والحرص على توجيهى والاستماع إلى ومتابعة شئون حياتى فى جميع جوانبها من «صليت النهارده يا عمرو» إلى «سألت على أولادك ولا لأ» مرورا بهموم العمل فى أكثر من بلد وفى بيئات مختلفة. وحين ألمحت فى مقالة «محطة عشقى الأولى»، التى كتبتها فى الشروق حين مرضت والدتى إلى لحظات الجفاء القصيرة بيننا، اتصلت أمى بى وهى تبكى، وقالت فى عذوبة لم تكن إلا لها أنها تريد أن تتأكد من أننى لست بحزين أو مكلوم وأقسمت لها أن حبها لى وفضلها علىّ يشملان كيانى، وإننى لا أتمنى من الله إلا شفاءها ورضاها عنى. كانت أمى القارئة الأولى لكتاباتى والمشاهدة الأولى لى، وكنت أسأل عن رأيها فى مقالات الصحف فى مكالمة الصباح اليومية، التى لم تكن لتتأخر عن الثامنة صباحا قبل مرضها، وكنت أهاتفها بعد كل مداخلة تليفزيونية لأستمع إلى وجهة نظرها. كنت أكتب لها هى، وأتكلم أمام الكاميرا متمنيا أن ترانى ويغمرنى إعجابها، وكانت تستفسر عن آرائى لكى تكتمل الصورة أمامها، وقبل أى شىء كانت سعيدة بأدبى فى الحوار مع الأضداد وصبرى على التشويه والشائعات الكاذبة دون التفوه «بكلمة غلط» أو التدنى إلى مواضع اللغو. لم يدفعها خوفها على ولا شعورها فى الفترة الأخيرة بأننى أتعرض لحملة ظلم منظمة، وكنت أعلم عن ذلك من إخوتى، لأن تطالبنى بأن أترك العمل العام فقط كانت تدعو لى بالتوفيق، وتطلب منى الاهتمام بصحتى وبيتى وبأولادى لؤى ونوح والصغيرة نادية، التى سميناها على اسمها، ولم ترها لظروف مرضها إلا مرة واحدة فقط. فى صمت تأخذنى صور ومشاهد الأمس القريب إلى مرض أمى فى الشهرين الأخيرين من حياتها هنا بيننا. كانت أمى دائمة الدعاء بأن يأتى أجلها دون ألم وألا تضطر، هى التى أمضت سنواتها الأخيرة بعد زواج هبة وذهابى إلى الدراسة فى الخارج، وزواج أحمد تعيش بمفردها وتصر فى كبرياء على العيش بمفردها، إلى الاعتماد على أحد لتصريف أمورها. «مش طالبة من ربنا غير إنى أموت فى ثانية واحدة، وأنا واقفة على رجلى وقلبى بارد عليكم وعلى ولادكوا»، هكذا كانت أمى تخاطب إخوتى وتخاطبنى، ولم يتزعزع يقينها فى لطف الله بها بعد معرفتها بسقوط جسدها الرقيق للمرض اللعين. حزنت طبعا يوم شعرت بحقيقة مرضها وجزعت وبكت على نفسها، وعلى بكائنا عندما استجمعنا طاقتنا، وأبلغناها بالمرض وبضرورة السفر إلى الخارج للعلاج، وفى حزنها وجزعها ومع بكائها هدأت من روعنا وجعلت بصبر جميل من رحلة العلاج إجازة أسرية لنا ملأتها بحديث الذكريات والنوادر المضحكة والتوصيات للمستقبل والشكوى الهادئة من سوء أكل الألمان. كنت أبتعد عن مكاتب الأطباء وغرف الكشف والعلاج بعد أن تنتهى أمى من جلساتها لأبكى دون أن ترانى ولكى أتماسك أمامها، وكانت هى ترى عينيى الباكيتين وتقربنى بعذوبتها من صدرها وتسمح لى فى حنان أن أبكى عليه، «ما تخافش يا حبيبى، أنا راضية بقضاء ربنا ومش ماسكة فى الدنيا، طالبة بس ما اتوجعش وربنا ما يحملنيش فوق طاقتى»، كانت ترددها باستمرار فى أيامها الأخيرة. كانت أمى، وبالرقة التى لم تكن إلا لها ولن تكون، تعتذر لإخوتى ولى عما اعتبرته إرهاقا لنا أثناء مرضها القصير، «تعبتكوا يا ولاد»، وكنا نبكى أمًا حملت عنا كل متاعب ومصاعب الحياة، ولم ترهق أحدا، ولم نقدم لها نحن ما يستحق أن يذكر. لم تكن أمى تريد أن يراها فى مرضها إلا إخوتها الثلاثة ونحن أولادها الثلاثة، كبرياؤها الذى دفعها لطلب الموت «واقفة على قدميها» جعلها ترفض أن يراها الأهل والأصدقاء، وهى ضعيفة ومرهقة جراء المرض اللعين ومساعى العلاج. قبل يومين من رحيلها عن دنيانا ألقت أمى برأسها على صدرى: «أنا تعبت يا ابنى، ربنا ما يوريك الوجع يا حبيبى»، قالتها باكية، وبكيت معها ولم يكن فى جعبتى إزاء ألمها إلا بضع عبارات محدودة المضمون عن العلاج وفرص نجاحه وضرورة مقاومتها للمرض. قبل يوم من رحيلها عن دنيانا هاتفت أمى فى المساء أكثر من مرة، ولم تجب إلا بعد نصف ساعة كان بها جزعى قد بلغ مداه، «خايف من إيه يا عمرو، لما تكلمنى لمدة ساعة، وأنا ما أردش أعرف أن فى حاجه وتعاللى»، وهكذا كان الأمر يوم رحيلها فى صمت الصباح الباكر. يمضى الوقت، وأنتظر ولا تأتى أمى، ضاع صوتها الذى وهبنى بدايات النهار الجميلة «صباح الخير يا حبيبى، إزيك النهارده» والدعوة العذبة بالتوفيق والبركة، غاب وجهها الذى كانت ابتسامته زاد يومى ومعين نضارة حياتى، اختفت رقة الجسد وزاغ بريق العينين، واستطالت صحراء قاحلة لتغزو الأفق فى صمت ورتابة اللون الواحد. بغياب أمى تعطلت مشاعر السعادة وتحول الفرح إلى فعل مشين يتوارى خلف ستار، وباتت لهفة التباهى بالنجاح أمرا ولى ولن يعود، بغيابها توقفت الحياة. رحلت أمى عن دنيانا، وهى واقفة على قدميها ودون احتياج لأحد أو شبهة إرهاق  لنا أولادها، وكم كنا نتمنى أن نقدم لها شيئا من الحب والحنان والعطف والقدرة على التفهم التى غمرتنا بها  جميعا، رحلت أمى وتركتنى لأعيد اكتشاف حقيقة أن «وجع الفراق عمره ما بيروح»، رحلت أمى رحمها الله وغفر لها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved