قانون لهدم العمل الأهلى المنظم

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 3 ديسمبر 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

تحت مسمّى قانون تنظيم عمل الجمعيات العاملة فى مجال العمل الأهلى، وافق مجلس النوّاب فى الأسبوع الماضى على إصدار قانون يهدم العمل الأهلى المنظم ويشجع العشوائية فيه.

الأصل فى الدولة الوطنية، أى فى مجموع الإقليم والشعب والحكومة، وسواء كانت هذه الدولة فى مصر، أو فى السنغال، أو فى الأرجنتين، أو فى إسبانيا، أو فى إندونيسيا ــ أن بكل منها دولة، وسوقا، ومجتمعا مدنيا. الدولة بالمعنى الثانى هنا، وفى استخدام علم السياسة للمصطلح، تشمل الحكومة وكل الهيئات والأجهزة التى تصدر القوانين وتصوغ السياسات وتعمل على تنفيذها ومراقبة هذا التنفيذ، وكذلك تلك التى تسهر على مراعاة الالتزام بالقوانين واحترامها. بهذا المعنى، تندرج السلطتان التشريعية والقضائية فى إطار الدولة. وغنى عن البيان أن الأجهزة الأمنية، المسلحة منها والشرطية، تدخل فى إطار الدولة. الشعب يوكل الدولة فى ممارسة العنف نيابة عنه لإنفاذ القوانين والسياسات، ولذلك فهو عنف مشروع إذا مورس فى حدود القانون الذى يجب على الدولة الالتزام به. الدولة وممثلوها لا يبغون تحقيق الربح من وراء أنشطتهم بل المصلحة العامة، اللهم إلا إن كان ذلك انتهاكا للقانون وفسادا.

أما السوق، فهى مجال الإنتاج والتبادل، للناشطين فيه كل الحق فى تحقيق الربح، باحترام القانون ومراعاة الأخلاق. الناشطون فى السوق يراعون قواعد الاقتصاد والإدارة، فإن استغلّوا هذه القواعد وخرجوا عن القانون، باحتكار السلع أو الخدمات مثلا، فإن الدولة تحاسبهم على هذا الخروج، أما إن أغرتهم القواعد بتجاهل الأخلاق، بالاستهتار بتحقيق احتياجات المواطنين باعتبارهم مستهلكين، فإن الدولة تتدخل فى عمل السوق. أما المجتمع المدنى، وسنأخذ من الآن فصاعدا بمصطلح المجتمع الأهلى تماشيا مع القانون للدلالة عليه، فهو مجموع الجمعيات وغيرها من المؤسسات التى ينشئها المجتمع طواعية لتنظيم شئونه وخدمة مصالحه والتعبير عن آرائه. ولأن الاشتراك فى جمعيات المجتمع الأهلى ومؤسساته طوعى، فإنه، وبعكس الدولة، لا تراتبية فيه ولا قسر.

***

ليس موضوع هذا المقال تحليل مواد القانون وبيان مدى اعتدائها على حقوق المجتمع والشعب أو انتهاكها للدستور ذاته، فالقانون إذ يحرم الأفراد عمليا من الانتظام فى مؤسسات المجتمع الأهلى قد اعتدى على حق قرره الشعب لنفسه وأودعه واضحا فى الدستور، حيث أن هذا التحليل وهذا البيان قد اضطلع به آخرون بكل كفاءة. آثار القانون على المجتمع برمته بل وعلى الدولة هو موضوع هذا المقال. المجتمع الأهلى هو الوسيط، أما الضحية الحقيقية للقانون فهو المجتمع نفسه، بل والدولة أيضا.

المجتمع الأهلى هو المجتمع المنظم وهو لذلك الأقرب إلى الأفراد وتجمعاتهم، يعرف مشكلاتهم ومطالبهم ينقلها إلى الدولة فتصوغ هى السياسات وتسن القوانين على أساسها. تجمعات المجتمع الأهلى من أهم الفاعلين فى عملية صنع السياسات واتخاذ القرارات. إخضاعها للدولة وإلزامها بالعمل بمنطقها خسارة للدولة ذاتها. الدولة محدودة الحجم بالضرورة، ولذلك فإن كل ما يخضع لها لا بدّ أن يكون محدود الحجم أيضا. وعليه فإن إخضاع المجتمع الأهلى يفقد الدولة امتدادا واتساعا تستقى منهما الدولة المعلومات عن مطالب الشعب من مصادرها الحقيقية، وليس عبر ترجمة الأجهزة الأمنية لهذه المطالب وتفسيرها لها. الجمعيات الأهلية تعاون الدولة أيضا على تنفيذ سياساتها. هى مثلا التى ترعى المسنين واليتامى وتمحو الأمية تنفيذا لسياسات الوزارات المختصة، ومنها الهلال الأحمر الذى يقوم بإسعاف الناس. والمجتمع الأهلى يراقب السوق، وهو بهذا يدافع عن نفسه من جانب، ويساعد الدولة على الاضطلاع بوظائفها المتعلقة به.

المقاربة الأمنية واضحة فى هذا القانون، كما أنها وللأسف أصبحت واضحة فى كل مجالات حياتنا. الاحتجاج بالأمن القومى، دون أى تعريف له متفق عليه، وتقديم كل شيء يراد منحه أهمية على أنه يمس الأمن القومى، صار سمة لصيقة بالنقاش العام نشهدها يوميا. المرء بات يخشى مآل قصة الذئب الذى تكرر التحذير من هجومه فلمّا أدرك القوم كذب التحذيرات تغاضوا عنها حتى انقض الذئب عليهم وهم فى تراخ ودعة. إضفاء الطابع الأمنى على هذا المجال أو ذاك من مجالات السياسات، تراه مدرسة من دارسى السياسة، على أنه يبغى التبرير لاتخاذ إجراءات استثنائية غير مألوفة. هذا هو ما نراه بالضبط فى القانون المعتمد فى الأسبوع الماضى، كما شاهدناه من قبل فى قانون التظاهر، وفى قانون الانتخابات، وفى تعديلات قانون العقوبات، وفى قرار إلغاء انتخابات الاتحادات الطلابية فى الجامعات لهذا العام، وفى غيرها كثير.

انظر إلى اسم الجهاز الذى ينشئه القانون بمقتضى المادة 70 للإشراف الفعلى على العلاقات بين المنظمات غير الحكومية الأجنبية ومؤسسات المجتمع الأهلى المصرى: «الجهاز القومى لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية». لاحظ «قومى» وانتبه إلى تقديم«الأجنبية» على «غير الحكومية»! الإيحاء هو بأن كل ما هو أجنبى خطير بطبيعته، وكأنما لسنا نبحث لدى هذا «الأجنبى» عن الموافقة على إقراضنا، وعلى الاستثمارات، وعلى مصادر السياحة، وعلى السلع الغذائية، وعلى مدخلات الإنتاج، وعلى الأسواق لمنتجاتنا، وعلى العلم الحديث والمعرفة. وانظر إلى أعضاء مجلس إدارة هذا الجهاز كما تنص عليهم المادة 72: ممثلون عن وزارات الخارجية والدفاع والداخلية وعن المخابرات العامة وهيئة الرقابة الإدارية ووحدة غسل الأموال. سبعون فى المائة من أعضاء مجلس الإدارة يمثلون جهات أمنية. الإيحاء هنا هو بأن المجتمع وهو الأصل وليس الدولة، إما متآمر على نفسه، وإما قاصر لا يعرف كيف يحميها.

المدهش حقا هو أن يصدر مشروع هذا القانون، اسما على الأقل، عن أعضاء فى مجلس النوّاب. السلطة التشريعية هى أقرب سلطات الدولة وأجهزتها للمجتمع فهى صادرة عنه وممثلة له. ما يميز السلطة التشريعية عن جمعيات المجتمع ومؤسساته هو أنها جزء من عملية اتخاذ القرار ومراقبة تنفيذه. السلطة التشريعية هى التى تنوب عن المجتمع فى الدولة. بهذا القانون تنكرت السلطة لمن أنابها وقوّضت من أسسه.

وليس أقل إدهاشا أن الدولة توجه ضربة قاصمة للمجتمع فى وقت هى فى أمس الحاجة إلى مؤسساته. الدولة أعلنت على لسان واحد من المسئولين فيها أنها لن تعوِّض كل الموظفين المحالين إلى التقاعد. سواء نجحت فى ذلك أم لم تنجح، فإن هدف الدولة هو الانكماش. هذا الهدف واضح أيضا فى تخفيض الإنفاق العام، بتخفيض الدعم للمحروقات مثلا وبرفع سعر الطاقة الكهربية. أليس هذا هو الوقت الذى تحتاج فيه الدولة للمجتمع الأهلى لكى تضطلع بما أصبحت هى غير قادرة عليه؟

***

المراقب يستخلص أن الجوهر فى القانون هو أن الدولة تريد إغلاق المجال أمام أى احتمال لمبادرات يتخذها الأفراد أو تجمعات منهم، وأيا كان مجال هذه المبادرات. يبدو أن الدولة تعتقد أنه إن استطاع الأفراد اليوم تنظيم أنفسهم لتنظيف الشوارع أو رعاية الأطفال، أو لحماية البيئة، أو لإنشاء المستوصفات، فإنهم قد يقدرون غدا على تنظيم أنفسهم للمطالبة بسياسات وبحقوق هى تستكثرها عليهم. فلسفة القانون تذهب إلى أن تصبح الدولة هى كل شىء فى مصر وذلك بإخضاع المبادرات المجتمعية لها إخضاعا تاما.

ولكن هيهات. المجتمع لا يخضع. ما سيحدث هو أن المجتمع سينشئ تجمعاته خارج إطار القانون فيصبح عندنا مجتمع أهلى غير منظم وعشوائى، يضاف إلى الاقتصاد غير المنظم، وإلى الإسكان العشوائى. ولن تستطيع الدولة، مهما كانت سطوة أجهزتها، أن تلاحق العمل الأهلى غير المنظم، مثلما هى غير قادرة على تتبع النشاط الاقتصادى غير المنظم.
بدلا من أن تأخذنا الدولة إلى طريق الحداثة، فهى ترجع بنا إلى عشوائية كاملة. هذا القانون ربما كان نتيجة طبيعية لنفس عشوائية السياسة التى نعيشها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved