فستان رانيا.. أم حيرة هوية؟

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الثلاثاء 4 ديسمبر 2018 - 9:21 ص بتوقيت القاهرة


نزعت الفتاة الحسناء ملابسها لترتدى لباس بحر ساخن، فيما الأمواج تتهادى خلفها، قبل أن تحتفى بالمشهد صحيفة قومية كبرى، عرف عنها المحافظة، ونشره على شكل لقطات متسلسلة فوق ثمانية أعمدة أعلى صفحتها الأخيرة، مصحوبا بتعليق يتغزل فى صاحبة القوام الجميل، وبراعتها فى ارتداء المايوه أمام عيون الجميع!
اللقطات كانت على أحد الشواطئ المصرية، والصحيفة هى الأهرام، والزمان ستينيات القرن الماضى، والفتاة ليست نجمة سينمائية، ولا ممثلة إعلانات تروج ماركة معينة لملابس البحر.. مجرد فتاة عادية من بين آلاف الفتيات اللاتى يرتدن البحر ويلجن فى مياهه بمايوهات من قطعة واحدة أو قطعتين، عندما لم يكن هناك أحد من ملايين المصريين الذين يرتادون المصايف سنويا يرون فى الأمر أى إباحية أو خروجا على الأعراف الاجتماعية.
لم تقم الدنيا على نشر الأهرام وغيرها، للقطات من مصايف كانت تحفل بآنسات وسيدات وسط الأمواج، وفوق رمال الشواطئ بالمايوهات، من دون أن يتعرضن للتحرش أو المضايقات، فيما شوارع المدن من الإسكندرية إلى أسوان كانت تعج بفتيات المينى جيب، والفساتين القصيرة بدون أكمام، ومن دون أن يلتفت أحد إلى سيقان هذه، أو أذرع تلك.
كان المجتمع واثقا من نفسه، فلم يكن شغله الشاغل الأزياء، أو غرابتها، بل كان غالبية المصريين منهمكين فى افتتاح مصنع، أو اكتشاف صنف جديد من القطن أو القمح لزراعته، فيما المدارس والجامعات ومعاهد العلم المختلفة تجتهد لتقديم أجيال جديدة مسلحة بالوعى والمعرفة.
فى ذلك الزمان الذى امتد حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى أشك أن تكون فتاة جامعية لم تلبس المينى جيب أو الفستان فوق الركبة، رغم خروج بعضهن من بيئات محافظة، وأمهاتهن كن يرفلن فى الثياب الطويلة، لكنه المجتمع المتوازن الذى لم يضع اللباس هدفا للتناحر والانقسام، بل كانت لديه أهداف أكثر أهمية تتعلق بتوفير مأكله ومسكنه، وتحسين مستويات صحته ونظامه التعليمى، وأسباب قوته.
ثم جاء حين من الدهر هبت علينا رياح صحراء مسمومة، قذفت بعقدها ونقصها وجهلها، لتمرح فى ربوعنا ناخرة فى عظام هويتنا الوطنية، فرأينا المتحرشين حتى بالعجائز، والمتخفيات خلف الأقنعة والبراقع، ومن يريد الذهاب إلى عمله الرسمى بالجلباب والعمامة، واضطربت الشخصية المصرية، ولم تعد تلك الواثقة من نفسها، القادرة على العطاء والإبداع فى المجالات كافة، وتراجعنا إلى الخلف بعد أن كنا نزاحم على السير فى مقدمة الركب.
فى ظل هذا الوضع، كان منطقيا أن يثير الفستان الذى ارتدته الفنانة رانيا يوسف فى ختام مهرجان القاهرة السينمائى كل هذه الضجة، التى وصلت إلى المحاكم، بعد أن هرع البعض إلى ركوب الموج، وأطلق لحيته على عجل، وراح يدين الفنانة، وأهل الفن بالمرة، باعتباره حامى حمى الفضيلة، والمدافع عن «الشعب المتدين بطبعه»، رغم أن هذا البعض يذهب إلى السينما، ويشاهد أفلاما حافلة بفنانات يرتدين الملابس التى يعتبرها «فاضحة».
ذهبت رانيا يوسف إلى حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائى، وهو مناسبة للاستعراض أمام الكاميرات، وساحة للفت أنظار المنتجين والإعلاميين والجمهور، وليس دارا للعبادة، وهو أيضا، مكان حضوره قاصر على أصحاب الدعوات الخاصة، فى حدث تم ترتيبه بشكل يليق بالفن المصرى تحت قيادة السينارست محمد حفظى الذى حظى بإشادة واسعة، ولم يكن فى الحسبان أن يتصيد البعض فى ماء الفستان لإفساد الفرح باستعادة الحيوية للمهرجان.
ربما يكون التقدير خان رانيا يوسف، كما قالت عقب الهجوم الكاسح، وغير البرىء عليها، لكن هل كانت الفنانة تنتظر من نقابة المهن التمثيلية، ونقيبها أشرف زكى، المسارعة بإصدار بيان لإدانتها قبل التراجع وإصدار بيان ثانٍ للدفاع عنها إثر جرها إلى المحاكم؟! فى تقديرى نحن أمام قضية تعكس حيرة فى الهوية، وسؤال من نحن؟، أكثر من حملة لملاحقة السيقان العارية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved