ندفع أى ثمن ونتحمل أى عبء

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 4 يناير 2012 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

قضينا ثلاثين عاما فى قارب انتهت صلاحيته وتقوده جماعة من الربابنة المستفيدين من حالته المتهالكة. حذرونا من أن نتحرك فيهتز القارب وإذا اهتز، حسب قولهم، غرق. كنا نعرف، وكانوا يعرفون، أن القارب على وشك أن يغرق. كنا نعرف، وكانوا يعرفون، أن الإصلاح شرط لبقائه طافيا. كان رأينا أن هناك دائما فرصة لإصلاحه يجب عدم تفويتها. وكان رأيهم ولا يزال أن الإصلاح الفورى، أى بينما القارب مبحر وسط الأنواء، مكلف ومهدد للاستقرار، وأن المستقبل، عندما يرسو القارب وتهدأ أعصاب الركاب، كفيل بحماية القارب وربابنته وركابه. فجأة اندلعت الثورة كرد حاسم على الربابنة الذين رفضوا الإصلاح أو راوغوا فيه وعطلوه، وها هم الآن يحشدون قواهم لوقف مساعى الإصلاح والإصرار على تسييره وثقوبه مفتوحة وأشرعته القديمة مشرعة والناس فى داخله فى قلق على مستقبله ومستقبلهم.

 

●●●

 

أذكر فيلما سينمائيا لعب فيه دور الشرير ممثل شهير كان أحد الممثلين المفضلين لدى واسمه أورسون ويلز. فى أحد مشاهد الفيلم يدخل الشرير إلى حانة ليلية ويتوجه فورا إلى ركن تجلس فيه قارئة الغيب وتلعب دورها الممثلة الكبيرة مارلين ديتريتش. سألها الزبون أن تقرأ له مستقبله. تأملت قليلا فى البلورة الكريستال وعادت إليه بكلمات ما زالت ترن فى أذنى: «يا بنى لا أرى مستقبلا لك، فقد استهلكته بالكامل».

 

●●●

 

ظهر فى الأسواق مؤخرا كتاب بعنوان «هكذا كنا» اشترك فى كتابته الصحفى بصحيفة نيويورك تايمز والمثير دائما للجدل توماس فريدمان والأستاذ الجامعى المرموق مايكل ماندلبوم. تعودنا أن نقرأ لفريدمان مقالات عالية الصخب وموغلة فى المبالغة، ولكن يبدو أنه فى هذا الكتاب راعى وجود أستاذ جامعى سيدقق فى كل عبارة ترد فى الكتاب ويعود إلى أصل كل حكاية. علق أحد المراجعين على الكتاب بالقول إنه باجتماع الاثنين لتأليف هذا الكتاب كادت تتحقق المقولة الشائعة عن أن الصحفى يكتب المسودة الأولى للتاريخ ثم يأتى الأكاديميون ليكتبوا المسودات التالية.

 

يناقش الكتاب انحدار أمريكا، الموضوع الذى تناقشه عشرات الكتب التى صدرت فى الشهور الأخيرة ويشغل بال كثير من الأمريكيين وصناع السياسة فى العالم. الفكرة الأساسية فى الكتاب هى أن الولايات المتحدة شهدت خمس موجات من خطاب الانحدار، وكان يثبت فى كل مرة أن أمريكا قادرة على تجاوز الموجة ومستعدة لإصلاح الخلل. كانت الموجة الأولى عندما اطلق الاتحاد السوفييتى صاروخ سبوتنيك فى عام 1957، وساد أمريكا اكتئاب شديد وحكم عليها الكثيرون بدخولها مرحلة انحدار. فجأة ظهر جون كنيدى متحديا حالة الاكتئاب ورافعا شعار «سندفع أى ثمن.. وسنتحمل أى عبء». وبفضل حملتة انتقلت أمريكا علميا وتربويا إلى مرحلة متقدمة فى التكنولوجيا وعلوم الفضاء..

 

جاءت الموجة الثانية فى خطاب الانحدار حين غاصت جيوش الولايات المتحدة فى وحل فيتنام وكثر الحديث عن نظرية الدومينو التى بشرت بانحسار دور أمريكا ونفوذها فى منطقة جنوب شرقى آسيا وحين اكتسحت مظاهرات الطلبة ساحات الجامعات والمدن. كادت الفوضى تنشب فى أنحاء الولايات المتحدة لولا أن ريتشارد نيكسون واجه الموجة الانحدارية بحزم فألغى نظام التجنيد الإجبارى وعبأ جهود أمريكا الدبلوماسية والإعلامية، حتى هدأت النفوس وعاد الطلبة إلى مقاعدهم، ولم تتحقق نظرية الدومينو.

 

جاءت الموجة الثالثة خلال مرحلة جيمى كارتر، حين ضرب التضخم المالى الاقتصاد الأمريكى وارتفعت نسبة البطالة وصعدت اليابان اقتصاديا صعودا هائلا. فكانت الموجة الرابعة التى قيل أثناءها أن اليابان تنتقم من أمريكا وتستعيد بتجارتها وتقدمها التكنولوجى ما فقدته بعد هجومها المباغت على بيرل هاربور. خلال هذه المرحلة ظهر كتاب إزرا فوجيل بعنوان «اليابان: الرقم واحد». وما هى إلا سنوات وركد الاقتصاد اليابانى، وبعده انفرط الاتحاد السوفييتى.

 

●●●

 

نعيش الآن، الموجة الخامسة فى خطاب الانحدار الأمريكى. الجديد فيه أن الصين حلت محل اليابان، مع اختلاف بسيط، وهو أن المجتمع الأمريكى بقى مقتنعا بأن هذه الموجة ستشهد نهاية كنهاية الموجة الثالثة، أى بركود يصيب الاقتصاد الصينى كالركود الذى أصاب الاقتصاد اليابانى فى عقد التسعينيات. التقى الأكاديمى ماندلبوم مع الصحفى فريدمان فى الرأى الرافض لهذا الاقتناع. يقول الكاتبان إن النمط الذى ساد منذ 1957، نمط تجاوز أمريكا لأزمات انحدارها، كان يمكن أن يستمر لولا أن عاملا استجد هذه المرة ولم يكن موجودا فى المرات السابقة. يقول آلان بايندر أستاذ الاقتصاد بجامعة برنستون إن «أمريكا فقدت عقلها المالى حين أنفقت فى عهد بوش بدون تحسب للمستقبل». ويقول الكاتبان إنه لم يحدث فى أى موجة انحدار سابقة أن واجهت أمريكا حالة إفلاس كالحالة التى تواجهها الآن.

 

●●●

 

أحيانا يكون المزاح مؤلما. هناك من يقول إن أمريكا ستواجه موقفا موجعا فى حال قامت الصين بغزو تايوان لاستعادتها إلى الوطن الأم. عندئذ ستضطر أمريكا إلى طلب قرض من الصين للدخول فى حرب معها دفاعا عن تايوان.

 

●●●

 

توصل فريدمان وماندليوم فى كتابهما إلى النتيجة التى توصل إليها من قبلهما جون كنيدى، وأظن أن ثوار مصر وبعض عقلائها توصلوا إليها، وهى أن وقف الانحدار يتطلب التركيز على تشخيص أهم مواقع الخلل وإصلاحها فورا مع توفر الاستعداد الكامل لدفع أى ثمن وتحمل أى عبء.

 

إذا لم نفعل سيغرق القارب الذى لن يتحمل حركة ركاب غاضبين لحال القارب وفاقدى الثقة فى فريق الربابنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved