الدولة البوليسية الجديدة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 4 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

قُهرت إنسانيته مرتين، الأولى عندما سحلته سرية أمن مركزى أمام «قصر الاتحادية» بالهراوات الثقيلة وركلات الأحذية العسكرية، جسده تعرى تماما، حاول مرة أو مرتين أن يبتعد خطوة أو خطوتين عن جلاديه لكنهم لاحقوه بمزيد من التنكيل الإجرامى.. والثانية عندما أجبر على نفى أن تكون الشرطة اعتدت عليه مدعيا أمام النيابة العامة أنها حمته من المتظاهرين!

 

عُرى الرجل مرتين.. مرة بتجريده من ملابسه ومرة بتجريده من كرامته. الداخلية اعتذرت فى البداية عما جرى، فالوقائع المصورة دخلت كل بيت وشاهدها العالم بأسره، لم تكن هناك فرصة للإنكار أو النفى، غير أنها عادت بعد قليل لتعاود أساليبها العتيقة محاولة نفى القصة كلها. تصورت أن اعترافا من الضحية، وهو عامل بسيط قهرته ظروفه، يغلق الملف، ويمنع التحقيق، ويلغى المساءلة الجنائية والسياسية، ويحمى صورة الرئيس فى الخارج، خاطبت فقره واستخدمت ضغوطها، لواءات كبار فى الداخلية، بعضهم مساعدون لوزيرها، صاحبوه فى غرفة العناية المركزة التى نقل إليها فى أحد مستشفيات الشرطة، لم يتركوه لحظة واحدة حتى لا يدلى بشهادة مختلفة أو يقول شيئا جديدا على غير ما أجبروه أن يقول.. وبلغت المأساة ذروتها بدعاء زوجته لجلاديه أمام طبيب كبير تولى الكشف عليه: «ربنا يخلى لينا الداخلية»!

 

الوقائع المصورة تشبه ما جرى فى سجن «أبوغريب» بعد احتلال العراق من انتهاكات بشعة لحرمة الجسد تأباها السوية الإنسانية، غير أنها هنا جرت فى العلن أمام القصر الرئاسى لا فى أقبية السجون، وبينما خضعت صور التعذيب لتحقيقات جدية فى دولة الاحتلال يجرى التدليس على صور مماثلة فى دولة الجماعة!

 

الوقائع المصورة بذاتها تكشف مدى العنف الوحشى الذى ارتكبه ضباط وجنود بتعليمات من قيادات أعلى، والمعنى أن إرهاب الدولة ضد مواطنيها حاضر، والوقائع المعلنة تشى بحفلات تعذيب أخرى أبشع وأخطر فى معسكرات «الأمن المركزى» على ما جرى لعضو التيار الشعبى «محمد الجندى»، الذى اختطف وعذب بدرجة أدخلته غيبوبة عميقة.

 

الأخطر فى المشهد كله أننا أمام عنف دولة ممنهج تستخدم الشرطة فيه خارج أدوارها الدستورية والقانونية، وهو دور يستدعى أزمتها من جديد فى ظروف مختلفة، فقد كانت إعادة هيكلة الداخلية من المطالب الرئيسية لثورة يناير تطلعا إلى إنهاء معضلة «الأمن والمواطن»، فالأول ضرورى لسلامة الثانى، لكن تغوله عليه يحيله إلى سلطة قهر وصلت إلى التدخل فى أدق تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إعادة الهيكلة استبعدت من «المجلس العسكرى» و«رئاسة مرسى» على التوالى، والعلاقة بين الشرطة وشعبها لم تصحح على نحو يضمن استعادة عافيتها وهيبتها وفق القانون وقواعده لا وفق الجماعة وأهدافها. وهذه مسألة حاسمة فى مستقبل الشرطة المصرية التى وجدت نفسها فى أزمة مزدوجة، فإذا حاولت أن تقف على مسافة متساوية من أطراف الصراع السياسى، وأن تعمل فى حدود القانون والدستور وطبيعة مهمتها فى حفظ المنشآت العامة والخاصة، فإنها تواجه باتهامات من قيادات جماعة الإخوان المسلمين بالتواطؤ عليها، وإذا عادت لإعادة إنتاج أدوارها القديمة على الصورة التى كانت عليها أيام وزيرها الأسبق اللواء «حبيب العادلى» فإنها متهمة بأنها لم تتعلم الدرس ومستعدة لـ«الأخونة»، وقد كان الهدف من المجىء بالوزير الحالى اللواء «محمد إبراهيم» حسم الخيارات والتوجهات، وبدا ذلك واضحا فى تعقب النشطاء السياسيين واحتجازهم والعودة الموسعة إلى التعذيب فى معسكرات الأمن المركزى.

 

إنها عودة جديدة للدولة البوليسية بوجوه مختلفة وفى أوضاع لم تعتدها من قبل.. وتلك العودة جرت خطوة بعد خطوة واختبار بعد آخر، ففى البداية لم يكن النظام الجديد متأكدا من استعداد الشرطة منحه ولاءها، ومواريث الكراهية بين الطرفين تذكى هذا التصور، حاول أن يستخدم جماعته وأنصارها فى مواجهة احتجاجات سياسية عند منعطفات حادة، لكنه توجه أفضى إلى اشتباكات فى عدد من المحافظات والمدن الكبرى، وصعدت الجماعة انتقاداتها لوزير الداخلية السابق اللواء «أحمد جمال الدين»، واتهمته بالتواطؤ ضدها، وتفاقمت الاتهامات إلى حد تهديده بالعقاب من الشيخ «حازم أبوإسماعيل»، وهو ما حدث بالفعل، فقد عزل الوزير وجىء بآخر لاتباع سياسة جديدة تضع الشرطة فى خدمة الجماعة على عكس شعارها الذى يقول إنها فى خدمة الشعب.

 

الخطير فى عودة الدولة البوليسية أنها قد تخضع لسلطة غير دستورية، أو غير مخولة قانونيا التدخل فى الملف الأمنى، وهناك إشارات كثيرة تشى بأن الملف الأمنى يديره «خيرت الشاطر» نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وأنه هو الذى أدار الأزمة الأخيرة أمام الاتحادية، وهذه مسألة تطرح قضية «الدولة الموازية»، فلمن سلطة القرار الأمنى وإصدار التعليمات لجهاز الشرطة؟

 

عودة الدولة البوليسية تومئ لسيناريوهات قمع وتنكيل وتعذيب وتنصت واختراق لأحزاب المعارضة واتباع كل ما اعتمده النظام السابق مع معارضيه وبينهم الجماعة ذاتها، لكن عنف الدولة يدفع لمزيد من عنف المجتمع، والاستقرار لا تصنعه هراوات الأمن أو حفلات التعذيب. الأزمة فى جوهرها سياسية لا أمنية، تحسم بالوسائل السياسية لا بإرهاب الدولة، ومشكلة الجماعة أن وسائلها تخذلها ومشروعها فى «التمكين» يهدد مستقبلها، فمصر أكبر من أن يحتويها تيار واحد أو تقدر على مشاكلها جماعة بمفردها، والمراوغة فى طلب الحوار دون الجدية فيه محاولة اكتساب وقت لإفساح فرص جديدة أمام الاستئثار بمفاصل الدولة. الآن: دعوات الحوار فى غرفة العناية المركزة تصارع الموت الإكلينيكى، وفرصها تراجعت بفداحة بعد وقائع ما جرى أمام «الاتحادية» من تعذيب علنى.

 

يلفت الانتباه أن بيانا رئاسيا حاول أن يتنصل من المسئولية بكلام عن «تفعيل ما ورد فى الدستور من ضمانات للمواطن تحظر تعذيبه أو ترهيبه أو إكراهه أو إيذاءه بدنيا أو معنويا»، وهو جملة ما تعرض له المواطن المسحول، فقد عذب علنا، وأرهب بدنيا ونفسيا، وأوذى بدنيا ومعنويا، وأجبر على شكر الجانى وإدعاء أنه هو الذى أنقذه. إذا كانت هكذا تنفذ النصوص الدستورية، فنحن أمام دولة بوليسية تستخدم نصوص الدساتير كمناديل ورقية مصيرها معروف. فى قصة المواطن المسحول حاولت الرئاسة تبرير ما لا يبرر وتسويغ ما لا يسوغ، أو أن تطلق قنابل غاز سياسية للتغطية على الجريمة الإنسانية البشعة باتهام خصومها السياسيين بتوفير «غطاء سياسى للعنف» دون أن تسأل نفسها عن مسئوليتها هى، كأن من وظيفة المعارضات إعطاء شهادة إبراء ذمة للرئاسات، أو أن توفر غطاء سياسيا للفشل. نظام الحكم لا يريد أن يرى الحقيقة، فالغضب أوسع من أن تلخصه جبهة معارضة، ودواعيه تتزاوج فيه اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية، بعضه يعود لإحباطات الثورة التى ترى الأجيال الجديدة أنها قد أجهضت وأن جوائزها ذهبت لغير أصحابها، وبعضه الآخر يعود إلى إحباطات اجتماعية ترتبت على زيادة أعباء المعيشة وارتفاع أسعار السلع الرئيسية و«وقف الحال» فى الأسواق، وبعض الثالث يعود إلى قلق على صورة المستقبل وطبيعة الدولة فيه. مصادر العنف تتجاوز ما هو سياسى إلى ما هو مجتمعى، عندما تسد القنوات السياسية والاجتماعية فلابد أن يأخذ العنف طريقه ومداه، وتلخيص الأزمة فى وجهها الأمنى وإعفاء السياسى دعوة لمزيد من العنف، فلا أحد لديه «ريموت كنترول» يوقفه بضغطة على زر. العنف كله مدان، وأوله إرهاب الدولة البوليسية، وما جرى من أعمال عنف أمام «الاتحادية» يستحق التحقيق فيه وكشف ملابساته، العنف يولد العنف، وبعض القرارات السياسية تنطوى على عبوات عنف، مثل «الإعلان الدستورى» الذى منح فيه الرئيس لنفسه صلاحيات شبه إلهية، والجماعة ذهبت وسائلها إلى استخدام العنف أمام «الاتحادية»، وشجعت على اقتحام «الوفد» والاعتداء على شخصيات عامة أمام «مدينة الإنتاج الإعلامى»، وحاصرت «المحكمة الدستورية» وغلت يدها عن النظر فى قضايا تطالعها، وهذا كله ساعد على تراجع الثقة العامة فى مؤسسة العدالة، وكان الثمن فادحا وداعيا إلى انفجار الدم فى شوارع بورسعيد، كأن الدكتور «مرسى» قد وفر غطاءا رئاسيا للعنف، ثم أن قراراته بشأن معالجة انفلاتات الأمن فى مدن القناة أقرب إلى المدرسة الأمنية من أى شىء آخر.. وكانت النتيجة أن حظر التجوال لم ينفذ ليوم واحد، وتحولت القرارات إلى مادة تندر نالت من هيبة الدولة بصورة لا سابق لها، حاول «مرسى» أن يعطى بقراراته إشارة إلى حزمه وقوته، غير أنه فشل فيما حاول أن يؤكده، فلا حزم بلا سياسة تسنده ورأى عام يقتنع.

 

فشل «مرسى» بفداحة أن يثبت جدارته بالمنصب الرئاسى، فقد مصداقيته وتآكلت شرعيته وقطع صلته بثورة يناير التى كانت الكرامة الإنسانية من أهدافها الرئيسية، وصورة سحل مواطن أمام «الاتحادية» انتهاك الكرامة الإنسانية فيها مشين ويستعصى على التبرير.

 

عودة الدولة البوليسية ذروة المأساة فى قصة جيل سعى للحرية فإذا به يجد نفسه أمام إعادة إنتاج أبشع للنظام الذى ثار عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved