سيدة الفضائل فقدناها

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 4 فبراير 2015 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

كنت أنزل من بيتى كل صباح فأجده واقفا أمام السيارة وبيده فوطة كانت ذات يوم صفراء. يرانى فيلهث نشاطا وهو ينزح الغبار أو الوحل المتراكم على جسم السيارة ونوافذها، خدمة كان يمكن أن يقدمها قبل نزولى من البيت.. فيوفر لى وقتا ويعفى ملابسى الطازجة من استقبال غبار السيارة ووحلها. يعلم أنه قد لا يحصل على «المعلوم» لو وقف بعيدا عن السيارة أو غابت فوطته عن مكانها المألوف فوق غطاء المحرك. يعلم أيضا أن حصوله على مبلغ من صاحب السيارة ليس قدرا مكتوبا، كما هو الحال هذه الأيام، فالأمر كان لا يزال يخضع لإرادة صاحب السيارة ولمزاجه أو لتوفر قطعة نقود معدنية من عدمه. كنا، فى أغلب الأيام ندس قطعة أو أكثر فى يديه، وكنا دائما نحصل منه على كلمات أو إشارات تحمل معنى الامتنان، أى الاعتراف بالجميل، فالنقود القليلة التى كان يتقاضاها لم تكن فى حسباننا مقابل عمل أو كانت فى حسبانه مقابل عمل. كانت دائما هبة، نحصل مقابلها على كلمة «أشكرك».

فى تلك الأيام لم تكن قد شاعت وهيمن استخدامها كلمة خبيثة ولعلها النموذج على تدهور أخلاقياتنا وتدنى مستوانا الحضارى، أما الكلمة فهى «ماشى»، وصفتها وأصفها بالخبث لأنها تعكس أسوأ قيم العصر الذى نعيش فيه. كلمة تهيل التراب على مزاج من يتلقاها صباح كل يوم مقابلا جبريا على مبلغ صار معلوما يدفعه صاحب السيارة لشخص فى الغالب وافد من خارج الحى، والأدهى أنه لا يحمل فوطة صفراء أو من أى لون، ويتوقع منك أن تتوسل إليه ليفرج عن سيارتك لتبدأ رحلة الذهاب إلى عملك. يأخذ «إتاوته» ليحصل قائد السيارة فى المقابل على كلمة «ماشى».

•••

أما إذا استطعت خلال الليل الماضى أن تجد مكانا لا يقع ضمن السيادة الإقليمية لمنادى المنطقة، فقد يأتى المكان أمام بنك من البنوك الكبرى. يستقبلك حارس مستعد لإزاحة حجر أو إطار سيارات قديم وضعه بنفسه لتضع السيارة فى حمايته. ينتظر مقابلا لهذه المهمة التى ليست من اختصاصاته، بل هى على العكس تماما من اختصاصاته التى من بينها عدم مغادرة موقع الحراسة. يحصل على المقابل ويرد عليه بالكلمة الخبيثة «ماشى». زميله سيكون فى الانتظار عند الصباح ليسمح لك بالرحيل، وليعد الإطار القديم أو الحجر إلى مكانه، ويحصل على نصيبه النقدى، ولا ينسى أن ينهى الصفقة بكلمة «ماشى».

•••

لا يضيرنى أو يسبب مرارة فى نفسى خضوعى لهذا النوع من ممارسات السوق الموازية فى إدارة وتنظيم مرور القاهرة وجهود تصحيح حالة اللا مساواة فى الدخول ومزاعم التراحم والتكافل بين المواطنين، بقدر ما يسيئنى ويسبب مرارة فظيعة فى النفس ألا أسمع كلمة «أشكرك». الأسوأ طبعا هو أن أسمع كلمة» ماشى». يخفف من هذه الإساءة إننى أتذكر مع كل صباح ومساء وخلال النهار السعادة التى كثيرا ما شعرت بها فى دول عربية بشمال أفريقيا، وفى دول أوروبية وآسيوية عند سماعى كلمة «أحسنت» بالعربية أو ما يعادلها بالأجنبى فى كل مرة منحت مبلغا هبة أو «بقشيشا». «أحسنت»هى الكلمة التى اعتبرها أرقى ما ابتدع إنسان فى لغته ليعبر عن امتنانه وعرفانه بجميل شخص آخر لا يعرفه من قبل.

هناك، كما كان الحال هنا، ينشئون الأطفال على وضع الشعور بالامتنان والشكر مكانة المقدس تقريبا. تعلمنا أن نشكر الضيفة أو الضيف الذى يحملنا ليقبلنا على وجنتينا، ونشكره على قطعة الحلوى التى يخرجها من جيبه ويعطينا إياها. سمعت طبيبا يقول إن ابتسامة الرضيع التى ترتسم على وجهه بعد انتهاء «رضعته» هى فى الحقيقة رسالة شكر وامتنان وعرفان بجميل الأم. عرفت من هذا الطبيب أيضا أن الطفل فى مرحلة متقدمة من طفولته إذا لم يكن الأهل دربوه على قول «أشكرك» فى كل مناسبة تستحقها مصيره أن يخضع فى المستقبل لسيطرة «النرجسية» وعبادة الذات. هذا الطفل، سوف ينشأ على كره الآخرين والاستبداد بالرأى واعتقاد خاطئ بأنه على حق دائما، وأن كل شىء حوله هو من حقه، وليس من حق آخرين يشاركونه المنزل أو المدرسة أو العمل أو الملعب.

يقول الأستاذ تود كيشدان من جامعة جورج ماسون الأمريكية إن «تعويد «الأطفال على التعبير عن شعورهم بالامتنان وعرفان الجميل يصنع نساء ورجالا أبعد ما يكونون عن العنف فى اختيارهم مفردات كتاباتهم وفى علاقاتهم بزملائهم.

•••

بينما يقول جورج سيميل عالم الاجتماع إن الاهتمام بعرفان الجميل والتعبير عن الامتنان هما أساس «الذاكرة الأخلاقية للبشرية» وتكشف دراسات حديثة عن أن الاعتراف بجميل الآخرين يقيم جدار حماية ضد محاولات إفساد العلاقات الانسانية. هو أيضا المكون الأساسى فى «رأس المال الأخلاقى» الضرورى لمجتمعات تسعى للنهضة لأنه يقضى على العناصر السامة فى العلاقات. الشعور بالامتنان هو التفسير الأفضل لكلمة العدالة بكل معانيها، ومنها معنى الأخذ والعطاء والتعويض عن اللامساواة فى الدخول وتجسير الفجوة فى المكانة. هو أيضا، وهو أمر مثير فى حد ذاته، ينشط ذاكرة الإنسان، وبخاصة إنسان أواسط العمر لأنه يجعل الإنسان متأهبا دائما لإبداء العرفان والامتنان لشخص مد يده إليه بزهرة أو لمسة حنان أو ربتة اهتمام أو إشارة تشجيع.

لم أتصور وأنا شاب أن يوما سيأتى أكون فيه شاهدا على انقسام المصريين حول إعلان الامتنان والشكر لجنود يدافعون عن حرية سيناء. كسرتنا الممارسات والكلمات الخبيثة التى تسربت إلى مخزون أخلاقياتنا تمحو فيه آداب الوطنية والإنسانية. كسرتنا نرجسية أصابتنا كأمة وأفراد حتى أنستنا فضيلة الامتنان والعرفان بالجميل. كسرتنا كلمات ومفاهيم وممارسات جديدة سيئة السمعة والقصد والمعنى، وفى مقدمها كلمة «ماشى».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved