نحو شراكة استراتيجية فاعلة فى القطاع الصناعى

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الثلاثاء 4 أبريل 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

يلحّ على خاطرنا دائما مشروع التصنيع المصرى المأمول.. وفضلا عما يذكر عادة، أو يذكر أحيانا، فإنه تتجلى أهمية بناء شبكة مؤسسية واسعة وعميقة المدى، تتسع وتتعمق لتشمل جميع الأجهزة العاملة تحت مظلة الدولة المصرية فى المجال التصنيعى بالذات، ومن خلال خطة محكمة التصميم. ونقصد هنا ما يسمى بالصناعة التحويلية، حيث لا نتناول فى هذا المقام، ما يسمى بالصناعة الاستخراجية فى مجال التعدين والطاقة. وأن «الخطة الصناعية» التى نأمل وضعها وتنفيذها، يفترض أن تقوم بصياغتها فى شكلها النهائى جهة مسئولة عن التخطيط الوطنى الشامل فى مصر، ولو تحت مظلة «مجلس أعلى للتخطيط» تتبعه وزارة التخطيط القائمة، أو مجلس اقتصادى ــ اجتماعى بصلاحيات حقيقية. ويمكن حينئذ أن يظهر إلى النور مخطط التصنيع المرتجى.
وتشاء ظروف تشكل وأداء الدولة المصرية المعاصرة أن «يتفرق دم الصناعة» بين القبائل..! إذ تتعدد الجهات القائمة بالتصنيع سواء بنفسها، أو بالواسطة، أو بالإشراف، أو«التعهيد» (إسناد العمليات إلى الغير). ونقصد هنا فى البداية الجهات الحكومية العليا، باعتبار مسئولياتها المفترضة عن عملية التصنيع والتصرف التجارى فى السلع المصنّعة.
وهذه الجهات تأتى فى مقدمتها وزارة الصناعة والتجارة، وتتبعها «هيئة التنمية الصناعية»، وإن لم تتبعها شركات أو منشآت للإنتاج الصناعى مباشرة. وهناك وزارة قطاع الأعمال العام، التى تمثل الجهة الإشرافية المسئولة عن شركات الدولة فى قطاعات الإنتاج المختلفة. وهناك أيضا وزارة الدولة للإنتاج الحربى التى تتبعها الهيئة القومية للإنتاج الحربى، كجهة إشرافية على عشرات الشركات العاملة فى التصنيع الحربى. كما توجد «الهيئة العربية للتصنيع ــ العسكرى». وتقوم كل من شركات الإنتاج الحربى وهيئة التصنيع العسكرى بالعمل فى «القطاع السلعى المدنى».
وهناك «الترسانة البحرية» التى تعمل فى بناء السفن ولعلها تتبع وزارة النقل والمواصلات، وقد أشرفت القوات المسلحة أخيرا على إعادة تأهيلها.
أما وزارة التموين والتجارة الداخلية فتتبعها «شركة السكر للصناعات التكاملية»، وتقوم بالإنتاج المباشر لهذه السلعة (الاستراتيجية..!).
ووزارة الإسكان تتبعها شركات التشييد. أما وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة فتعنى بتصنيع مكونات المحطات على تنوعها. ولوزارة الزراعة يد طولى فى التخطيط المفترض لكل من الإنتاج الغذائى وتصنيع الآلات الزراعية.
أما وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فإنها تتولى المسئولية عن إنشاء «المناطق التكنولوجية» المقرر أن يبلغ عددها ثمانى مناطق، تبدأ بمنطقتى بنى سويف وبرج العرب الجديدة، وقد وضعت برنامجا طموحا لتصنيع بعض الإلكترونيات والتوسع فى أعمال «البرمجة» و«خدمات الحاسب» و«الخدمات من بعد» على الصعيدين الداخلى والخارجى. ودع عنك الشركات العاملة فى الصناعة الدوائية والصيدلانية، ولا نعرف لمن تتبع إشرافيا، فلعلها وزارة الصحة..؟
أما الهيئات العاملة تحت مظلة قانون المناطق الاقتصادية الخاصة، فإن أهمها «المنطقة الاقتصادية الخاصة» حول قناة السويس، وتعمل بصورة تبدو جادة من أجل إقامة مناطق صناعية إلى جانب الأنشطة اللوجيستية الكبيرة حول ميناء العين السخنة وفى شرق تعريفة بورسعيد.
هذا، وقد جاء فى الأخبار أخيرا أن وزير الكهرباء والطاقة زار اليابان وبحث مع كبرى الشركات اليابانية إمكانية إقامة مصانع لإنتاج مهمات ومعدات وقطع غيار للمشروعات التى أقامتها وتقيمها هذه الشركات فى مصر وخاصة محطات التوليد، وإنشاء ورش صيانة مراكز تدريب للكوادر على غرار تجربة شركة سيمنس الألمانية.
وجاء فى الأخبار أيضا أن وزير الدولة للإنتاج الحربى قام بزيارة «بيلا روسيا» لمناقشة التعاون فى مجال التصنيع الثقيل للاستفادة من طاقات الشراكات التابعة للهيئة القومية للإنتاج الحربى ومساعدتها على تلبية حاجات القطاعات الإنتاجية بما فيها القطاع الزراعى (من الجرارات... إلخ).
ويناقش وزير الاتصالات مع ممثلى عدة شركات دولية إمكان تعميق التصنيع فى مجال شرائح السيليكون الذكية والأجهزة الدقيقة العاملة عليها فى مجال الاتصال عبر المسافات. كما تتم خطوات أخرى فى مجالات صناعية متناثرة، مثل «دباغة الجلود» فى منطقة «الروبيكى»، ومدينة صناعة الأثاث فى دمياط، ومشروع الألف مصنع صغير فى «القاهرة الجديدة»...
فمن يلم شتات المجهودات الصناعية، التى ربما يبدو أنها تمثل نوعا من صحوة لدى عدد من المسئولين لتطوير بعض القطاعات الفرعية فى «الصناعة التحويلية» التى هى الركن الركين لتحقيق التنمية الاقتصادية؟
ومن يصنع من قماشات الرؤى المتناثرة داخل الدولة المصرية قماشة واحدة، ومن يضع توجهات متكاملة للسياسات المساندة، بما قد يحد ــ لو بصفة غير مباشرة ــ من آثار (التعويم)، لتنشيط تصنيع المنتجات التى تحل محل الواردات، وذلك ما لا نملّ من المطالبة به دوما، دون مجيب أو مستجيب، وخاصة من داخل وزارة الصناعة والتجارة الخارجية.

***

ونعيد السؤال: من يلمّ شتات هذه الجهات كلها، وغيرها مما لم نذكرها أو لم يصل إلينا علم بها، ليجعل من جهودها المتفرقة قماشة واحدة؟ من يكون بمثابة «العقل الاستراتيجى» الموجّه لها والمتابع بالدقة الضرورية لأعمالها، والمسئول عن تقييم المنجز من نشاطها إيجابا وسلبا؟
من يحوّل النشاط المبعثر لكل تلك الأجهزة إلى «شراكة» ذات طابع استراتيجى تتقاسم أطرافها الموارد المالية والبشرية والتكنولوجية لتحقق جميعها هدفا واحدا، هو رفع نسبة الصناعة التحويلية من الناتج المحلى الإجمالى من نحو 16% الآن إلى أكثر من 25% بعد عدة سنين؟ وأن يتم التركيز على أولويات قطاعية محددة لإشباع حاجات المجتمع الأساسية والمُضىّ فى مسيرة التعميق الصناعى الحقيقى؟ ومن الذى يمدّ خطوط الاتصال مركزيا ولا مركزيا بين القوات المسلحة والهيئة العربية للتصنيع والإنتاج الحربى و«اتحاد الصناعات المصرية» الجامع لغرف وشركات القطاع الخاص، وبين هذه جميعا وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، وأيضا المشروعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة، وخاصة منها المشتملة على مورّدين فرعيين للأجزاء والمكونات وقطع الغيار للمشروعات الكبرى..؟
ومن يسعى إلى تدبير الموارد المالية لإقامة صرح الصناعة المصرية، سواء من مصادر داخلية، مصرفية وغيرها، أو من مصادر خارجية بالاقتراض أو الاستثمار المباشر، أو حتى بالمساعدة الإنمائية الرسمية أحيانا؟
ومن يعمل على تجنيد الموارد البشرية و(تجييش الجيوش) من العلميين والتقنيين والعمال المباشرين، عبر منظومة التعليم التقنى والتدريب المهنى والكليات الهندسية والتكنولوجية؟ ومن يوجّه إلى بناء صرح للبحث العلمى والتطوير التكنولوجى R&D مساند للبرنامج التصنيعى؟
ومن يستدعى وينظم تدفق البيانات الواردة من أجهزة متباعدة، مثل الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، وأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا.. وغيرها عديد؟
من يقوم بكل ذلك سوى جهاز مسئول عظيم القدر تنظيميا، وثقيل الوزن سياسيا؟
هل يمكن أن يعهد بهذه الأمانة إلى وزارة الصناعة والتجارة لتكون نظيرا لوزارة الصناعة والتجارة الدولية اليابانية (ميتى MITI) والتى كانت بمثابة العقل الاستراتيجى للصناعة فى هذا البلد الآسيوى الكبير؟ أم ينشأ جهاز جديد، بتشريع جديد، تعهد إليه الأمانة والمسئوليات الثقال؟ وإذا كان جهازا جديدا فهل يقف على قمته رئيس الجمهورية أم أحد معاونيه؟ هل يكون جهازا (من خارج الحكومة) أم من داخلها؟ وما صلة الجهاز التخطيطى الصناعى بالجهة الإشرافية العليا، مثل «مجلس أعلى للتخطيط»، أو «المجلس الاقتصادى والاجتماعى» المأمول؟
أسئلة لابد من طرحها، والبحث عن إجابة صحيحة عنها، لمواجهة التحدى الماثل من وجهتين: أولاهما الاتفاق الأخير بين الحكومة وصندوق النقد الدولى، والذى يركز على محاولة تحقيق التوازنات الاسمية للاقتصاد ــ أى المالية والنقدية ــ بتكلفة اجتماعية عالية كما هو معروف، دون أن يكون معنيا مباشرة بضرورات إحداث واستدامة التوازنات الحقيقية للاقتصاد الوطنى، عن طريق إعادة تأهيل القطاعات المنتجة، السلعية والخدمية، من الزراعة إلى الصناعة إلى البحث العلمى ــ الأساسى والتطبيقى ــ والتطوير التكنولوجى والتجريبى.
أما الوجهة الثانية للتحدى فتنبعث من النشاط الظاهر للسيد رئيس الجمهورية فى مجال المشروعات الكبرى: من قناة السويس إلى استصلاح الأراضى، ومن محطات الطاقة إلى مشروع العاصمة الإدارية على سبيل المثال. ودع عنك النشاط الجمّ فى مجال (الإنتاج المدنى لقطاع الإنتاج الحربى والتصنيع العسكرى) ــ من خلال «الهيئة القومية للإنتاج الحربى» و«الهيئة العربية للتصنيع العسكرى»، فذلك كله يضع «جهاز الدولة المدنية» ــ إذا صح هذا التعبير ــ أمام التحدى التاريخى أن يكون قوة مساندة بدلا من أن يكون قوة معطلة لمشروع إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع على أساس متين.
ومن المهم أن يتم ذلك فى إطار مشروع تنموى عام للدولة المصرية فى إطارها العربى التليد ثم الإفريقى ــ الآسيوى العتيد، بعيدا عن ميول وضغوط «لوبى» رجال المال والأعمال الكبارــ ذوى النفوذ ــ وخاصة من «اتحاد الصناعات المصرية» و«اتحاد الغرف التجارية».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved