المهم نكسب!

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 4 أبريل 2022 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

هكذا رددها دون أى حرج، ظل يلحن بها وكأنه يريد أن يحفرها فى ضمائر الأطفال والشباب الذين تحلقوا بشاشات التلفزيون يتابعون رياضتهم المفضلة، مشجعين فريقهم القومى الذى يحمل علم البلاد. ما كاد معلق مباراة كرة القدم بين مصر والسنغال ينتهى من وصلات السخرية والغمز والتنابز بالألقاب التى اختارها سبيلا لشحن عصبية الجمهور، واكتساب شعبية زائفة وقودها التطرف والتعصب الكروى الكريه، حتى أدرك أن ما يؤديه فريقنا لا يرقى إلى مستوى لعب الأزقة وفرق الدرجة الثالثة فى النجوع، فصاح مبررا ذلك الأداء العشوائى المبعثر بعبارة واحدة كاشفة، أحسبها سببا لكثير من وجوه الإخفاق فى مختلف المجالات، وليس فى كرة القدم أو الرياضة وحسب، قال المعلق: «المهم نكسب مش مهم نلعب»!
كنا قد أحرزنا هدفا يتيما بقدم أحد مدافعى السنغال مع بداية انطلاق المباراة الأولى من مباراتين فاصلتين للتأهل إلى تصفيات كأس العالم. كان تسجيل هدف المباراة الوحيد مؤذنا بفتور اللعب وميوعته وعدم اكتمال التمريرات بين لاعبينا، ناهيك عن إهدار الوقت وفرص التهديف فى ملعبنا وبين جمهورنا، على نحو يضعنا بالتأكيد فى مأزق متى صار الحسم فى المباراة الثانية على أرض السنغال. الجمهور المصرى هيأ لفريقه ليلة كروية راقية، تشجيع وسلوكيات لطالما رغبنا أن يتحلى بهما جماهير الكرة فى بلادنا، وقد ساء البعض (بعد ضياع فرصة الصعود إلى تصفيات كأس العالم) أن الجمهور لم يكن معظمهم من أهل التعصب البغيض، إذ لم يكونوا أداة فاعلة فى تدمير معنويات الفريق المنافس! على حد وصف نفر من المحللين، الذين هم بعض تجليات عبارة «المهم نكسب مش مهم نلعب».
•••
يا لله كم ألف كتاب ومحاضرة ودرس ومقال تم نسفها فى لحظات بفعل تلك العبارة الهادمة! كيف نقنع طلابنا وأبناءنا بعد اليوم بأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى؟ كيف نقنعهم أن الغاية لا تبرر الوسيلة، وأن الكنز فى الرحلة، وأن الأسباب لابد وأن تلتمس من أجل بلوغ الغايات؟! هل نعلمهم أن الأداء الردىء لا يسىء إلى صاحبه طالما أنه أحرز الفوز فى النهاية، لا يهم أنى أحرزه؟! ما هى القيم التى نرغب أن ترتقى بها الرياضة فى النفوس، لو لم تكن السماحة والتشجيع الهادئ واستحسان «اللعبة الحلوة» ولو كانت من المنافس؟!... كان أبى رحمه الله يعلمنى أن معدن الإنسان يعرف فى لعبه وفى مزاحه كما يعرف فى جده، وأن الأحمق هو الخاسر البغيض، الذى لا يخسر فى الملعب وحسب، وإنما يخسر احترام الآخرين له متى نفس عن غضبه من هزيمته بأسلوب يخلو من الاحترام.
المحصلة النهائية لمبدأ المعلق الرياضى، والذى يبدو أنه هو ذاته مبدأ المدير الفنى للفريق الذى أفصح عنه فى بطولات سابقة، هو أننا أصبحنا لا نلعب ولا نكسب ولا حتى نستمتع بلعبة كرة القدم التى لم تبن شعبيتها وجماهيريتها عالميا على المكسب والفوز، ولكن على المهارة والتناسق واللعب الجماعى وإحراز الأهداف. ماذا لو أن هناك مسابقة للسخف مثلا، هل ترغب أن تكون صاحب المركز الأول بها والفائز بجائزتها؟! ماذا لو أنك تكسب دائما بخطة واحدة تنتزع كل ما فى لعبة كرة القدم من جمال وفن وتحمل اتحاد الكرة الدولى على تغيير قواعدها، لأنك ببساطة أصبحت كالفيروس الجديد الذى أصابها؟! هل فى ذلك من فخر؟ وهل كانت مباراتنا مع إيرلندا فى كأس العالم 1990 إلا نحوا من ذلك؟!
•••
بالتأكيد لا أهدر مداد هذا المقال على تلك العبارة التى صاح بها المعلق الرياضى، والتى ربما حسبها البعض سقطة غير مقصودة، أو أنها بعض غثاء مما امتلأت به منصات الإعلام الرياضى بعدما باتت برامج التحليل وقنوات التعليق ساحة لإظهار أسوأ ما فى الناس. ولكن تحول مضمون تلك العبارة إلى مبدأ وأسلوب حياة، وانعكاسه على سلوكيات كثير من المصريين هو الذى أغرى بى لكتابة تلك السطور. منذ أيام قرأت خبرا عن مجموعة من أولياء الأمور يقتحمون مدرسة أمام أبنائهم، يسبون ويصيحون وينزعون أبوابها لأن إدارة المدرسة رفضت دخول أبنائهم بعد الموعد المحدد، على الرغم من تكرار تأخر التلاميذ وتكرار تحذيرهم وأولياء أمورهم من مغبة ذلك التأخير!
عند ذلك المشهد الحزين تتجلى عبارات على شاكلة: «المهم يدخلوا مش مهم يتربوا ولا يتعلموا» أو «المهم الشهادة مش مهم التربية والتعليم»... ومثل هؤلاء من يعترضون على عدم تسيب لجان الامتحانات، وعدم السماح لأبنائهم بالغش! أو من يرغبون فى مذاكرة الملخصات بغرض النجاح فى الاختبارات، وليس بغرض تحقيق أى نفع أو فائدة من التعليم... ومثلهم من يريد أن يحصل على ترقية فى عمله ولو كان ذلك على حساب إخلاصه فى عمله وإلى زملائه، أو كان ثمنه رشوة وتملق الرؤساء... التباس عجيب بين الغايات والوسائل، وتقديم لكل ما هو شكلى صورى على أى جوهر أو مضمون. بل هو إنكار فعلى للحكمة من البقاء فى الدنيا، والتى لا تعدو أن تكون رحلة واختبارا لبلوغ ما عند الله، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته. فلو استطعت أن تغش فى امتحانك وعملك لتحصل على تقدير دنيوى زائف، فقد غفلت عن الغرض من وجودك فى الدنيا، وسرعان ما خسرت الدنيا والآخرة معا.
من المؤسف ألا يفهم المرء قوة الإعلام وقدرته على بناء الأمم وهدمها بينما يحمل بين يديه بعض أداوته النافذة. لا عجب إن كان الميكروفون أمضى أثرا من المدفع والصاروخ، ولا عجب إن حفظ الأطفال نكات معلقى الكرة أكثر مما يحفظون نصوص التاريخ والأقوال المأثورة للعلماء والزعماء. لكن العجب كل العجب أن تسعى فى تسعين دقيقة فقط إلى هدم ميراث من القيم والتعاليم التى توارثتها الأجيال عبر القرون!.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved