البراجماتية السياسية العربية المشوّهة

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الإثنين 4 مايو 2009 - 5:33 م بتوقيت القاهرة

 إن الفيلسوف الأمريكى وليامز جيمس قد نبّه إلى أنّ مقدار صحّة أى عقيدة مرتبط إلى حد كبير بمقدار النجاحات التى تتحقق بسبب ممارسة تلك العقيدة فى الواقع. إن هذه النظرة تقع فى صلب الفلسفة البراجماتية التى ارتبطت بأسماء عدة فلاسفة أمريكيين وبالممارسة السياسية الأمريكية. ومن هذه الفلسفة خرجت كلمة البراجماتية السياسية التى تتعامل مع العالم الواقعى كما هو وليس كما ينبغى أن يكون.

مناسبة هذا التذكير هو تفاخر بعض السلطات العربية بأنها إنما تمارس البراجماتية النفعية تلك، وليس الإيديولوجية القومية العربية، عندما تتعامل مع المستجدات المتلاحقة فى الساحة السياسية العربية، سواء على المستوى المحلى أو على المستوى الخارجى. حسنا، دعنا نقبل التعايش مع هذا التغيٌّر المفاجئ وهذه الهداية فى النظرات والأساليب السياسية عند هذه الحكومات ودعنا نصفٍّق بحرارة لاكتشافها عالم الفلسفة التى تدّعى أنها اكتشفته وآمنت بما تقوله إحدى مدارسه. ولنناقش بعض الأمور مع تلك الحكومات بمنطق تلك الفلسفة التى يدّعى بعض القادة فى تلك الحكومات أنهم يسيرون على هديها.

مرة أخرى إن روح النظرية الفلسفية البراجماتية تقرأ معانى ومبررات أى عقيدة، بما فيها السياسية، من خلال النتائج العملية التى تنتج عن ممارسة تلك العقيدة. أى إنها، وبعكس ما يعتقده بعض الساسة العرب، ليست نظرية لتشجيع الانتهازية السياسية أو تبرير التهرُّب من المسئوليات القومية المشتركة أو تأكيد عدم ضرورة الالتفات للقيم الأخلاقية والإنسانية. فإذا طبّقنا ذلك على تعامل بعض الأنظمة العربية مع موضوع المقاومة العربية، فما الذى نجده؟ باسم البراجماتية المتعقٍّلة لام تلك الحكومات المقاومات العربية فى الجنوب اللبنانى عندما دخلت فى مواجهة مفتوحة مع قوات الكيان الصهيونى. وعندما حققت تلك المقاومة نصرا ميدانيا وسياسيا ونفسيا هائلا أوقع الكيان المغتصب فى تيه داخلى عاصف، وصفّقت الجماهير العربية بحماس لذلك الانتصار، وجدت تلك الحكومات العربية نفسها محرجة ومعزولة عن نبض شارعها، بل ومكروهة من قبل الكثيرين. فهل يمكن اعتبار مواقف تلك الحكومات براجماتية واقعية كما ادّعت؟ إن شرط البراجماتية هو أن تؤدٍّى ممارستها إلى نجاح تلك الممارسة، وهذا ما لم يحصل بالنسبة للموقف الضعيف المخجل من قبل تلك الأنظمة تجاه لبنان الذى كان يخوض معركة حياة وعز وشرف آنذاك.

وتكرُّر الأمر نفسه بالنسبة للمواقف تجاه المقاومة الفلسطينية فى جميع أرجاء الأرض المحتلة وعلى الأخصّّّ تجاهها عندما قاومت ودحرت الهجوم البربرى الحيوانى على سكانها الجائعين المرضى العراة فى مدينة غزّة. وظلُّ الفهم الخاطئ والتطبيق الانتهازى للبراجماتية يسودان التعامل مع كل جوانب موضوع إعادة إعمار غزّة والنظر فى سبل دعم المقاومة الفلسطينية. وأن الألوف من الغزّاويين لا يزالون ينامون فى العراء وينظرون إلى بيوتهم المهدّمة دون أدنى أمل فى فرج قريب. ذلك أن ممارسة البراجماتية، دون ضوابط أخلاقية دينية أو إنسانية ودون أى اعتبار للالتزامات القومية، لا يمكن إلاُ أن تؤدٍّى إلى رجحان كفُّة ما يريده الغرب الظالم الجائر وما تريده الصهيونية العنصرية التى لا تتغذّى إلاُ بدموع الآخرين. ومرةُّ أخرى هل تستطيع الأنظمة العربية المعنيّة أن تدلٌّنا على النجاح الذى حقّقته ممارستهم للبراجماتية المزعومة؟

ويتكرّر الأمر نفسه تجاه أى مقاومة فى أى بقعة عربية، وهل ننسى الموقف السّلبى والمحبط الذى وقفه هؤلاء من المقاومة العربية الباسلة ضدُّ الاحتلال الأمريكى فى العراق؟ بل هل أدى ذلك الموقف العربى الموجع الانتهازى من كل موضوع الاحتلال الأمريكى لواحدة من أهم الدول العربية إلاُ إلى تمزيق أوصال العراق ودخوله فى مستنقع الطائفية والصراعات العرقية؟ ومرة أخرى فشلت البراجماتية العربية فى صدٍّ العدوان على العراق كما تفشل اليوم فى إخراجه من التمزٌّق السياسى الذى يعيشه والذى سيؤدٍّى إلى إخراج العراق من السُّاحة العربية الفاعلة لسنين طويلة قادمة.

والمنطق البراجماتى الخاطئ نفسه هو الذى جعل من مؤسسة القمة العربية أضحوكة أمام العالم كلّه، عندما أصبح حضور أو عدم حضور اجتماعات القمُّة مرتبطا بمدى حميمية العلاقة بين هذا القائد أو ذاك أو بين هذا البلد أو ذاك. ولقد أظهرت جميع التعاملات البراجماتية تلك أنها فاشلة وبالتالى لا دخل لها من قريب أو بعيد بالفلسفة البراجماتية المعروفة ولا بواضعيها من الفلاسفة ولا حتى بتقليد صحيح لتطبيقاتها فى المجتمعات الأخرى. وكالعادة فكل ما تعرفة بعض الأنظمة العربية هو قراءة المانشيتات دون أى إلمام بقراءة متأنّية للمحتوى. ويا ليت تلك الأنظمة تدرك أن الحالة العربية لا تحتاج إلى براجماتية مشوّهة بقدر حاجتها لإيديولوجية أخلاقية طاهرة تربط ممارساتها بالمصالح الكبرى للأمّة العربية من خلال تضامن وتعاضد وتفاهم قومى ومن توحيد للجهود الرسمية والمجتمعية لمواجهة المشروع الصهيونى وذلك لإخراج هذه الأمة من انقسامها وتخلفها وهوانها على نفسها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved