حلفاء صغار.. وليسوا عملاء

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 4 مايو 2017 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

اتصالا بالمقالين السابقين فى «الشروق» لكاتب هذه السطور حول الدور الأمريكى القائد فى تحويل الإرهاب المتأسلم إلى ظاهرة عالمية، وذلك تطويرا لاستراتيجية توظيف الإسلام السياسى فى الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعى، نستكشف، اليوم، فى هذا المقال تحولات السياسة الأمريكية نحو هذه الظاهرة المسماة بالإسلام السياسى بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على نيويوركو واشنطن، وسيقودنا هذا الاستكشاف حتما إلى محاولة التنبؤ بما سوف تستقر عليه سياسة الرئيس الأمريكى (الجديد) دونالد ترامب إزاء الإسلام والمسلمين وتجاه تيارات وتنظيمات الإسلام السياسى.
كانت خلاصة المقالين السابقين هى أن الطرف الإسلامى فى التحالف الدولى الذى شكلته وتولت قيادته واشنطن للجهاد ضد الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، تحول إلى الجهاد ضد الولايات المتحدة نفسها، وضد حلفائها الأوروبيين والعرب، وذلك بعد أن أدرك هذا الطرف ــ وبحق ــ أنه تعرض للخيانة من الحليف الأمريكى وشركائه العرب، سواء بالإهمال، أو بالوقيعة، أو بالملاحقة، أو باتخاذ المواقف والسياسات المعادية (بسفور) للإسلام والمسلمين فى فلسطين، والصومال، والبلقان، والجزائر.. إلخ، وكذلك بترويج نظرية «الإسلام هو العدو»، بعد أن هزمت الشيوعية..
وكانت هجمات 11 سبتمبر هى الإعلان الأكثر دموية لتحول الأزمة بين واشنطن والإسلام السياسى إلى حرب ساخنة مفتوحة متعددة الجهات، فقد أعلن الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن «حربه الصليبية» على الإسلاميين ردا على هذه الهجمات، مبتدءا بغزو أفغانستان، ثم تلاه بغزو العراق، مبشرا هو ومحافظوه الجدد بمواصلة الحرب، لإقامة شرق أوسط جديد مرة، وشرق أوسط كبير مرة أخرى، وشرق أوسط موسع مرة ثالثة، ولا مانع من «تقسيم السعودية إذا تطلب الأمر، على أن تكون مصر هى الجائزة الكبرى» !!
لكن صليب بوش الابن انكسر فى أفغانستان، وفى العراق، لأن الغزو الذى نجح فى إسقاط نظام طالبان فى الأولى، ونظام صدام حسين فى الثانية، لم يؤد لكسب الحرب ضد الإرهاب، بل إنه أنتج مزيدا من الإرهابيين الأكثر تطرفا، إضافة إلى النتائج المأساوية الأخرى، مثل تمكين إيران، إهمال القضية الفلسطينية، وخسران معركة «العقول» مع عموم المسلمين، بمن فى ذلك المعتدلون منهم..
ما العمل؟
فى مواجهة هذا السؤال الكبير، ومع ثيوت فشل المحاولة رقم (2) لتنفيذ المشروع الامبراطورى الأمريكى استغلالا لهجمات 11 سبتمبر، بعد أن كانت المحاولة رقم (1) قد فشلت فى الصومال استغلالا لسقوط الاتحاد السوفيتى، ومع بوادر ظهور الأزمة المالية العاتية التى انفجرت فى أواخر رئاسة بوش، كانت الإجابة هى: إذن لا مفر من تجربة بديل الحرب، والتحول من الصراع الصليبى ضد الإسلام والمسلمين، إلى البحث عن شركاء من المسلمين، يقبلون قيم العصر، ويمكن إدماجهم فى النظام العالمى سياسيا وثقافيا واقتصاديا، وكما قلنا فى كتابنا «الوحى الأمريكى: قصة الارتباط البناء بين أمريكا والإخوان المسلمين»، فإن الرأى فى واشنطن استقر على «تحبيذ أن يكون هؤلاء الشركاء من المنتمين للإسلام السياسى ذاته، فهو الدواء مثلما أنه هو الداء فى هذه الحالة، سيما وأن الشركاء التقليديين من الحكام العرب والمسلمين أصبحوا جزءا من المشكلة، ولم يعودوا جزءا من الحل».
فى هذه اللحظة اتخذ القرار الاستراتيجى، وقد صدر هذا القرار يوم 28 يونيو 2007، حيث صدقت كوند وليزا رايس، وزيرة خارجية بوش الابن (وليست هيلارى كلينتون وزيرة خارجية باراك أوباما) على سياسة جديدة ترخص للسفراء وغيرهم من أعضاء البعثات الدبلوماسية الأمريكية فى العواصم الإسلامية بالاتصال الرسمى، بالإخوان المسلمين، خصوصا فى مصر والعراق وسوريا، على أن تجرى هذه الاتصالات فى البداية بممثلى الجماعة المنتخبين فى البرلمانات، والنقابات المهنية، ثم تتطور الاتصالات تاليا لتشمل الزعماء الآخرين للجماعة.
فى سياق التمهيد لهذا القرار كانت اتصالات استطلاعية قد جرت، وجهود بحثية قد بذلت، وجلسات استماع فى الكونجرس قد عقدت، وأسفرت كلها عن الاتفاق على «ضرورة التمييز بين المعتدلين وبين المتطرفين فى الحركة الإسلامية عالميا، وإقليميا فى الشرق الأوسط، وداخليا فى الولايات المتحدة»، كما كتب روبرت ليكين الباحث فى مركز نيكسون للدراسات السياسية فى مجلة فورين أفيرز (أكرر مركز نيكسون الجمهورى)، وشارك فى هذه الجهود أسماء كبيرة مثل جون سبوزيتو، ومارك لينش.. وآخرون من الخبراء والدبلوماسيين فى كلا الحزبين الجمهورى والديمقراطى.
قبل ذلك كانت إدارة بوش الابن قد تبنت محاولة تجريبية بالضغط على الرئيس المصرى حسنى مبارك لإتاحة مساحة أوسع لجماعة الإخوان المسلمين فى الانتخابات البرلمانية لعام 2005، وكما نتذكر فقد أحرز مرشحو الجماعة انتصارات كبيرة فى المرحلة الأولى، ولولا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك آرييل شارون ناشد بوش أن يترك لمبارك حرية التدخل فى الانتخابات، لحقق الإخوان أغلبية مريحة فى المرحلتين التاليتين من الانتخابات، وكانت هذه التجربة سببا إضافيا ومهما لقرار كوندوليزا رايس، الذى سبق ذكره.
مغزى هذا السياق كله أن السياسة الأمريكية عادت إلى استراتيجية احتواء «الإسلاميين» بإحياء التحالف القديم معهم، على أن يكون التحالف هذه المرة ضد المتطرفين والجهاديين فى الحركة الإسلامية ذاتها، وليس ضد الشيوعية، كما كان الحال فى مرحلة الحرب الباردة، وهذه مناسبة للتأكيد على أن هؤلاء المنخرطين فى التحالف مع واشنطن قديما وحديثا ليسوا عملاء بالمعنى الدارج، وإنما هم مجرد حلفاء صغار يظنون أنهم كبار.
وكانت هذه هى السياسة التى ورثها باراك أوباما وهيلارى كلينتون.
ثم جاء الربيع العربى بوعوده، التى تضمنت فرصة فريدة لدمج الإسلاميين المعتدلين فى الحياة السياسية لبلدانهم، ومن ثم فى النظام العالمى وقيم العصر، وبانكساراته التى تضمنت فشل وتخبط هؤلاء المعتدلين، وصدامهم مع كتل كبيرة فى مجتمعاتهم، وتربص الدولة العميقة بهم، ثم انقضاضها عليهم، وعلى كل وعود الربيع العربى، وظهرت داعش، ومعها طور جديد أشد عنفا، وأكثر انتشارا من الإرهاب المتأسلم، وعادت السياسة الأمريكية إلى حالة الترقب والانتظار، بما تتضمنه هذه الحالة من انعدام اليقين، ومن ثم عدم وضوح الرؤية، وبالتالى الخضوع لمنطق التجريب، أو المحاولة والخطأ.
وفى القلب من هذه المأساة يعتمل الصراع الشيعى السنى، ويتمدد النفوذ الإيرانى، ويعود النفوذ الروسى إلى المنطقة.
هذا هو الوضع الذى ورثه الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب، الذى بدا ــ فى أثناء حملته الانتخابية، وفى تصريحاته الأولى كرئيس ــ أنه سيعود إلى استراتيجية بوش الابن فى «المواجهة الصليبية» مع تنظيمات الإسلام السياسى، وأنه لا ولن يعبأ بالتمييز بين المعتدلين والمتطرفين فى هذه التنظيمات، كما بدا أنه سيتبنى وجهات نظر «الدولة العميقة» فى عموم الشرق الأوسط فى ضرورة اجتثاث جماعة الإخوان المسلمين بوصفها مصنع انتاج أهل الشر.
وإذا كان من المبكر القطع بأن طريقة تفكير الرجل تغيرت بعد دخول البيت الأبيض، وإطلاعه على التاريخ الرسمى الموثق للعلاقات الأمريكية مع «الإسلام السياسى»، وتحولاتها من التحالف، إلى المواجهة، إلى الاحتواء، فالعودة إلى الترقب والانتظار والتجريب، وبعد مشاوراته المعلنة، وغير المعلنة فى الداخل والخارج، مع المسئولين السابقين، ومع الخبراء، والباحثين، فإن هناك مؤشرات لا تخطئها عين على أن مبدأ الحرب حتى النصر على الإسلام السياسى، لم يعد هو الموجه لسياسة الإدارة الأمريكية الجديدة.
من هذه المؤشرات التريث فى تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، وارتفاع نبرة الحديث فى الدوائر الأمريكية الرسمية والدوائر الأممية عن القمع وانتهاكات حقوق الإنسان فى مصر بوصفها من أسباب التطرف والإرهاب، بما فى ذلك حديث ترامب الفخور عن دوره فى إطلاق آية حجازى وزملائها من السجون المصرية «حتى لا تقضى فى هذه السجون 28 عاما من عمرها».
أما أحدث المؤشرات فهو إعلان حركة حماس الفلسطينية فك ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما قد يبدو ظاهريا انتكاسة للجماعة، ولكن قليلا من إمعان النظر يقطع بأن هذه الخطوة من جانب حماس تمت باتفاق مع الجماعة، وأصدقائها العرب وغير العرب، وذلك لإظهار مزيد من «الاعتدال» أمام إدارة ترامب، إذ أن وثيقة حماس الجديدة وهى تعلن فك الارتباط بجماعة الإخوان قررت أيضا قبول دولة فلسطينية على الأراضى المحتلة عام 1967، بما يعنى التخلى عن مبدأ إزالة إسرائيل، كشرط لتأهل «الإسلاميين المعتدليين» للمشاركة فى أى حوارات، وصفقات مقبلة.
هذه المؤشرات، وغيرها مما لا نعلمه، ومما سيظهر قريبا ترجح احتمالات عودة السياسة الأمريكية للتمييز بين المعتدلين وبين المتطرفين فى الحركة الإسلامية العالمية، وفى دول الشرق الأوسط، وقد يؤدى ذلك إلى التحالف مرة أخرى ضد المتطرفين، ولكن ذلك يستلزم أولا التفاهم مع الدولة العميقة فى عموم الشرق الأوسط على استيعاب هؤلاء «المعتدلين» فى الحياة السياسية لبلدانهم، ولن يكون مثل ذلك التفاهم صعبا، إذا اتخذ القرار الأمريكى بذلك، لأن جميع أطراف اللعبة المحليين فى الشرق الأوسط ليسوا أكثر من حلفاء صغار، ضعاف المناعة والممانعة أمام واشنطن، الجميع بلا استثناء.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved