آراء وقضايا إقليمية للمناقشة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 4 يونيو 2015 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

كانت الأيام السبعة الماضية فرصة لأتعرف عن قرب على آراء أكبر عدد ممكن من المفكرين ورجال المال والأكاديميين والإعلاميين العرب أو من ذوى الأصول العربية. الفرصة كانت رائعة ولكن الخلاصات رهيبة، رهيبة فى المحتوى، ورهيبة فى تجسيدها حالة الارتباك وفوضى القيم وتدهور الآمال والطموحات. لقد شاركت فى اجتماعات وحلقات وأمسيات لم أخرج من واحدة منها برأى عام، ولا حتى بفهم عام، حول قضية بعينها. أو حتى حول معلومة معينة. لم أشأ أن أعرض فى مقالى هذا الخلاصات التى سمعتها فى خلاصة موحدة، ستحمل بالتأكيد بصمات رأيى الشخصى. لذلك تركتها كما سمعتها ورأيتها، وها هى بين يدى القارئ.

***

قيل إن حزب الله لا يزال القوة العسكرية الأكبر بين مختلف القوى الدينية المسلحة فى العالم العربى، ولا يزال طرفا فاعلا وأساسيا فى الأزمة اللبنانية، وبخاصة أزمة البحث عن رئيس للدولة. وقيل من آخرين إن شعبيته انخفضت لأن شعاراته ارتبكت. قام يجمل شعار حماية الجنوب ثم رفع شعار زعامة المقاومة المسلحة ضد إسرائيل وبعدها الدفاع عن نظام الرئيس الأسد، باعتبار أن لبنان مستهدف كخطوة لاحقة لسقوط الرئيس السورى، وأخيرا شعار التصدى لحرب طائفية تسعى داعش ودول إسلامية أخرى لشنها ضد الشيعة فى كل مكان وفى لبنان بخاصة. يقال أيضا إنه بدون حزب الله ينكشف الضعف اللبنانى فى مواجهة غزو المتطرفين الإسلاميين، وتنكشف هشاشة النظام السياسى اللبنانى. هذا الاختلاف فى الرأى حول حزب الله ودوره فى الحياة السياسية اللبنانية والعربية عموما ليس جديدا، الجديد فيه هو الحدة فى التعبير عنه.

***

اختلاف آخر كان حادا فى وقت من الأوقات، وعاد حادا. إنه اختلاف الرأى حول دور مصر العربى والإقليمى. أغلبية ملموسة تريد أن تخرج مصر من عزلتها لتلعب دورا. قسم فى هذه الأغلبية يشترط أن تلعب مصر الدور الذى يناسب هذا القسم من الناس، وقسم آخر لا يمانع فى أن تعود مصر لدور هى تختاره، قيل مثلا،« نثق فى مصر، فهى لن تختار دورا يسىء إلى أهداف الأمة وتطلعاتها التى هى فى نهاية الأمر أهداف أى قيادة وطنية تتولى حكم مصر. ومع ذلك يبقى هناك رأى صوته عال، يتصور أن مصر لن تعود فاعلة كما كانت قبل ثلاثين عاما، ولديه أسبابه ومبرراته وبراهينه، والمثال على نقص الكفاءة كما قيل لى.. الأداء السىء للدبلوماسية المصرية إزاء مختلف تطورات الأزمة الليبية عموما، وفى مجلس الأمن خصوصا».

دار النقاش أمامى مرات عديدة حول جدوى أن تقوم مصر بدور الوساطة فى أزمات راهنة بعينها، مثل اليمن وليبيا وسوريا. نعم مصر تستطيع، فلديها الرصيد من المكانة والتجربة، هكذا ذهب رأى، ولكن آراء أخرى رأت استحالة نجاح مصر فى أداء مهمة كهذه، لسبب أو أسباب تختص بكل حالة على حدة. مثلا قيل إنها طرف فى حرب اليمن باعتبارها شريكا فى الحلف السعودى، وإن كانت لم تمارس حتى الآن هذه الشراكة بالشكل الذى توقعته قيادة الحلف. قيل أيضا إنها طرف فى الأزمة الليبية، فقد تدخلت عسكريا وتتدخل سياسيا لصالح أحد طرفى الأزمة ضد الطرف أو الأطراف الأخرى. ويعتقد أنصار هذا الرأى أن الطرف الأنسب ربما كانت المملكة السعودية، باعتبار أنها لم تتدخل، خلافا لأطراف خليجية وإقليمية عربية تدخلت وتتدخل فى الأزمة الليبية، أما فى سوريا، يقال إن مصر هى الدولة ذات الفرصة الأكبر فى أن تستمع إليها الأطراف المعتدلة والمعارضة وكذلك النظام الحاكم، والسبب هو أنها مازالت تتمسك بمبدأ مشتق من المنظومة العسكرية المصرية، وهو الحفاظ على وحدة الدولة من خلال الحفاظ على وحدة الجيش. وأنه إذا انفرط الجيش انفرطت الدولة. كثيرون على العكس يعتقدون أنه يمكن جدا الحفاظ على وحدة سوريا حتى إذا انفرط جيشها وانهار نظامها الحاكم. هنا يكمن جوهر الخلاف بين مؤيدى التدخل المصرى فى التسوية السورية ومعارضيه، ولا يخفى مناصرو التدخل المصرى، وهم أغلبية، اندهاشهم من ازدواجية مواقف دولية وإقليمية تدعم «الثورة السورية »، بينما وقفت بالمرصاد، ومازالت تقف، ضد جميع ثورات الربيع العربى، الاستثناء الوحيد هو ثورة سوريا. تعتقد هذه الأغلبية أن الانقضاض على الثورة السورية بعد سقوط النظام سيكون ماحقا وأشد مما حدث فى مصر وغيرها.

***

لم تخل جلسة نقاش من إشارات مؤلمة أو جارحة لأجهزة الإعلام العربية وأدوارها المثيرة للجدل. حضر مشاركون يحملون ملفات لمقالات إعلاميين معروفين وتسجيلات لإعلاميات وإعلاميين لم يكونوا معروفين وأصبحوا نجوم فضائيات. تشى المقالات بتطور خطير فى الشأن الإعلامى. قيل إننا كنا إلى عهد قريب نقرأ لإعلاميين أو نشاهدهم منشغلين بشرح وتبرير سياسات خارجية لدول ينتمون إليها بالجنسية أو بالعاطفة أو بغيرهما. كان المألوف، مع استثناءات، أن يكون التعليق على السياسة الخارجية بعد اتخاذ القرار وليس سابقا عليه. الآن، نقرأ لمن يتنبأ بسياسة لم يتخذ فيها قرار بعد، فتسرى الشائعات فى كل أنحاء المعمورة الإعلامية بأن فلانا الإعلامى هو الذى يصنع الموقف الرسمى لبلاده وليس وزير خارجيتها أو رئيس دولتها. تكرر هذا الأمر فى الأسابيع الأخيرة، إلى حد دفع بمراقبين إلى الاعتقاد بأن مصدر بعض القرارات المتخذة أخيرا فى دول عربية بعينها مقال صحفى يزعم كاتبه بأنه يعرف دخائل منظومة صنع القرار فى بلاده ويستطيع الكشف عن بعض ما تفكر فيه، وتكون نتيجة هذا المقال أن تتبنى الدولة أفكار هذا الإعلامى وتصدر القرار الذى تنبأ المقال به. يعكس هذا الوضع الحالة المتردية لعلاقة غريبة الأطوار بين نقص فى الخبرة لدى سلطة حاكمة وفوضى مطلقة مع سوء أداء فى المؤسسة الإعلامية.

الظاهرة الأخرى الجديرة بالاهتمام، هى هذه الجوقة من إعلاميين، فضائيين خاصة، الذين يبذلون جهدا خارقا لبث الوقيعة بين الشعوب العربية أو بين الأنظمة الحاكمة فيها، يستطيع أى مراقب أن يتهم الحكومات بأنها وراء تسريبات أو توجيهات تصدر إلى إعلاميين معينين لأداء هذه المهمة، وما أسهل أن تنكر الحكومات علمها المسبق بهذه الإساءات، وتعاقب ولو رمزيا من ارتكبها، ولكن هناك ما يؤكد، أو هكذا شرح إعلامى مخضرم، أن إعلاميين يلعبون الدور أو يؤدون المهمة مدفوعين من سفارات دول أخرى أو مدفوعين بأغراض شخصية ولكنهم واثقون من أن صانعى السياسة فى بلادهم منشغلون بأمور أخرى ولن يتنبهوا للأمر إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن يكون الضرر قد وقع.

***

جار أيضا فى العديد من العواصم العربية الحوار، والخلاف طبعا، بين الأكاديميين حول طبيعة وشكل مستقبل العرب ومستقبل الشرق الأوسط برمته. هناك ما يشبه الاتفاق على أن النظام الإقليمى العربى، لكى يستمر، يجب أن تعاد صياغته بحيث يسمح لدول صغيرة استطاعت لأسباب غير قليلة الحصول على قواعد إقليمية ودولية للنفوذ والقوة، أن تحتل المكانة المناسبة داخل النظام العربى. ذهب بعض الأكاديميين إلى القول بأنه ما لم تحل هذه القضية بشكل مؤسسى وموضوعى ستبقى «فوضى التدخل» شوكة جادة فى جسد النظام، ولن يعود الاستقرار إلى تفاعلات النظام الإقليمى. المؤكد فى نظر هؤلاء المراقبين من الأكاديميين والسياسيين هو أن الدول الأكبر، وهى أقل عددا ونفوذا من أى وقت سابق، لن تتنازل ببساطة عن مكانتها أو نفوذها. أما المختلفون مع هذا الرأى فيعتقدون أن المسألة لم تعد تقتصر على تغييرات انتقالية مطلوبة فى النظام الإقليمى العربى، بل تجاوزتها إلى التحولات المتوقعة فى نظام شرق أوسطى يفرض نفسه بالتدريج، ويضعف خلال مسيرة بنائه من أوزان عربية تقليدية، ولم يضف، ولن يضيف، إلى أوزان الدول الصغرى الناشئة فى المكانة والنفوذ. ولا يخفى أن بعض الدول العربية بدأ فعلا الاستعدادات ليكون أقرب إلى المواقع المهمة فى النظام الشرق أوسطى المزمع قيامه.

***

وكالعادة الجديدة التى نسير عليها منذ سنوات سبقت نشوب ثورات الربيع، لم يعد النقاش فى جلسات حوار متعددة الموضوعات يتطرق من تلقاء نفسه إلى موضوع فلسطين. وقع الاستثناء الوحيد هذا الأسبوع فى اجتماع كان مخصصا لفلسطين وليس لأى موضوع آخر. استفدت شخصيا فائدة كبيرة، ليس فقط لأننى مثل غيرى كثيرين حرموا من مناقشة قضية فلسطين فى اجتماعات المثقفين والنخب العربية عامة. ولكن أيضا لأننى اكتشفت حديثا فلسطينيا غير مألوف على الأذن العربية. قيل وبوضوح إن الداخل الفلسطينى، وأقصد الفلسطينيين العرب المقيمين فى إسرائيل، يكاد ينجح فى فرض نفسه لاعبا أساسيا فى صنع مستقبل فلسطين، وربما مستقبل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى. تأكد لنا، بالاستماع ثم النقاش ثم كثيرا من التأمل والتحليل، أن اللاعبين الآخرين، وهما سلطة رام الله وسلطة غزة، قد وصلا إلى نهاية قدراتهما وكفاءتهما ومشروعهما وربما شرعيتهما. لا يقول أحد فى الحوار أنهما سقطا، ولكن سلوك إسرائيل وأطرافا دولية كثيرة وأطرافا عربية عديدة وفى مقدمتها الرأى العام العربى، يجسد أصدق تعبير عن حكم يكاد يكون نهائيا وقاطعا فى مستقبل هذين اللاعبين، كطرف فلسطينى أساسى فى المسيرة السياسية لشعب فلسطين، وكطرف يمثل فلسطين فى أى نظام إقليمى يتشكل فى المنطقة.

***

أنا قادم لتوى من بلاد الطوائف والمذاهب والقبائل، أحمل شعورا قريبا من اليقين، بأن المنطقة على وشك أن تشهد أزمة من نوع جديد. ليس صعبا أن يلاحظ الزائر لهذه البلاد أن أهل طوائفها ومذاهبها وقبائلها تعيش حالة خوف رهيب من المستقبل. خوف من الإبادة أو الترحيل أو الإذلال والاسترقاق. عاشوا عقودا بل قرونا محتمين بظل وإخلاص رؤسائهم ومشايخهم. أخيرا جاءت اللحظة الحاسمة.

ليس سرا أن قادة هذه الطوائف والقبائل والمذاهب يعيشون مأساة قلق وعذاب أليم. يخافون على مصائر «شعوبهم»، أغلبهم عاجز عن حمايتها، بعضهم يتوقع انقسامات وربما انتفاضات، بمعنى آخر شرعية هؤلاء تتعرض لأزمة وكذلك هوياتهم وعلاقتهم بالدولة الأم.

لم يسعفنى الوقت لأسمع تفصيلا لما يخطط له هؤلاء القادة من المشايخ وأصحاب السماحة والفضيلة وبعضهم من ذوى التاريخ المشرف فى الوطنية والقيادة الحكيمة، للخلاص بشعوبهم فى وقت مناسب.

اقتباس
أنا قادم لتوى من بلاد الطوائف والمذاهب والقبائل، أحمل شعورا قريبا من اليقين، بأن المنطقة على وشك أن تشهد أزمة من نوع جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved