عن الرئيس والمؤسسات والشعب

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 4 يوليه 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

يبدو لى أحيانا أن هناك فجوة رهيبة بين ما يشغل الناس فعليا، وكل الأسئلة والصراعات الكبرى التى تدور فيها الدولة ويدور فيها الإعلام ويدورنا. ففى فلك يتحدثون عن التأسيسية والدستور والإعلان المكمل، وعن الشورى ومجلس الشعب المنحل والأحزاب والتحالفات والتكتلات، وفى فلك آخر نتحدث عن حق الشهداء وعن المصابين، والمفقودين، والمحاكمين عسكريا. وفى فلك يتحدثون عن البورصة والاستثمارات الأجنبية والبنك الدولى والقروض، وعلى الأرض يضرب العمال ويتظاهر الفلاحون ويوقف عمال السكة الحديد القطارات.

 

بالطبع هناك علاقة بين الفلكين، لكنها ليست علاقة بسيطة أو واضحة، وأكاد أجزم بأن معظمنا ـ سواد الشعب ـ لا يفهمها إلا بشكل مبهم. نفهمها بما يكفى لأن نخرج بالملايين حين ضاقت بنا سبل العيش، وحين زاد توحش الجهاز الأمنى بحيث لم يعد أحد يأمن على نفسه إن تعامل معه، وحين استشرى الفساد فلمست توابعه كل أسرة ـ نخرج بالملايين لنقوم بثورة هدفها «إسقاط النظام». ولكن، ما هو النظام، وما شكل سقوطه، وكيف نعرف أنه سقط؟ وماذا نضع مكانه، نؤَمِّن به العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية؟ ما هو شكل النظام الذى نطلبه والذى سيتيح ويؤطر شكل الحياة التى نريدها لأنفسنا؟ 

 

المطلوب، والذى ثار الشعب من أجله، أن يكون الشكل المؤسسى للدولة موائما لاحتياجات وتطلعات وعبقريات مواطنيها. وقد بدأت بعض المجموعات من المواطنين المخلصين فى العمل فعلا على بلورة رؤى حول شكل ووظيفة وعمل المؤسسات التى تحكم شكل الحياة فى مصر، وتبحث عن سبل طرحها للنقاش الشعبى العام، ومنها مثلا مبادرة «شرطة لشعب مصر» التى نوقشت فى أكثر من مكان، منها، مثلا، «تويت ندوة» فى التحرير. ويفترض أن «مشروع النهضة» الذى يقول به الحزب الحاكم يحاول أن يبلور رؤى من هذا النوع وما زلنا فى انتظار أن تطرح مكوناته للنقاش العام.

 

وأحد احتياجاتنا الأساسية اليوم هو أن نأتى بحق شهدائنا، وأن نجد مفقودينا، وأن يعالَج مصابونا، وأن يفرج عن المحكومين من شبابنا عسكريا. هو احتياج مرحلى، لم يكن، بالطبع، من «أهداف» الثورة المعلنة أصلا، فهو قد نشأ عن العنف الذى قابل به نظام مبارك الثورة فى أيامها الثمانية عشرة الأولى، والضربات التى ظلت تلاقيها بعدها ممن تَرَك لهم إدارة البلاد عند خلعه. لكنه احتياج ومطلب يتسق تماما مع إصرار الثورة على الكرامة الإنسانية، ووضعها للإنسان، للبنى آدم، فى بؤرة اهتمامها. وهو مطلب يساعدنا إصرارنا عليه، فى الواقع، على الاستمرار فى عملية «الفرز» التى بدأت فى ٢٥ يناير؛ فالاستجابة له تُبَيِّن موقفك من الثورة.

 

الثورة خلعت حسنى مبارك وأسرته، وأربكت النظام، وأودت ببعض كبار المنتفعين منه إلى السجون، وهزمت جهاز الأمن، وكشفت الغطاء عن مدى الفساد والتخريب الذى عانت منه البلاد، وأطلقت الطاقات الإبداعية والخلاقة عند الناس وعَرَّفَتنا على أحسن ما فى نفوسنا، وعَرَّفَت كل فرد فى الشعب أن له حقا وله كلمة، وأزعجت أعداء مصر فى الخارج وأسعدت أصدقاءها (وهم كُثَّر)، وأخرجت سجناء الرأى من السجون، وطرحت للنقاش أمورا كان مسكوتا عنها تماما، ونظفت الانتخابات ولو جزئيا ـ وتقف الآن متأهبة لاستكمال الطريق. فهل كل هذا موضع استحسان عندك؟ أم تراه مقاطعة سخيفة لسير الحياة وشئون الدولة بشكلها الطبيعى؟

 

فإن كان موضع استحسان، وكنت فى وضع القادر، توجهت فى الحال إلى من دفعوا ثمن هذا التغيير بأرواحهم، وبعيونهم، وبفقدان الرزق والحرية والصحة ـ إلى نحو عشرين ألفا من شبابنا، وأسرهم، فشكرتهم، واعترفت بجميلهم، وعنيت بأمورهم، وكرست لهم مكانا فى قلب مستقبل البلاد. وإن كنت تراه مقاطعة عابرة، فعليك بتجاهلهم، أو التشكيك فيهم، أو تدويخهم فى اللجان والمحاكم لتجعل منهم عبرة لمن يعتبر ولمن تسول له نفسه اعتبارها صاحبة حق فى هذا البلد.

 

فماذا يرى رئيس مصر الجديد المنتخب؟ أشاد أكثر من مرة بالشهداء، وتحدث عن المصابين، وقال إن دم كل هؤلاء فى رقبته. لكن المطلوب ليس كلاما. فقد أدى اللواء الفنجرى التحية العسكرية لأرواح شهدائنا، ثم أضاف مجلسه العسكرى إلى أعدادهم، وحصد عيونهم، وأودعهم السجون ظلما. المطلوب هو الفعل. والمطلوب، أكرر، هو أن يأخذ الشهداء حقهم، وأن نجد المفقودين، وأن يعالَج المصابون، وأن يفرج عن المحكومين عسكريا. فكيف سيتعامل الرئيس الجديد مع مطلبنا هذا الحارق والمُلِحّ؟ وما هو الشكل المؤسسى الذى نأمن ونرتاح له لتوفية هذا الاحتياج؟ بالتأكيد ليس اللجنة المكونة من القيادات القديمة، من أعداء الشهداء والمفقودين والمصابين والمحكومين، التى قيل إنه أمر بها للبحث فى أمر المحكومين عسكريا ـ ثم قيل إنه لم يأمر.

 

فى الواقع كان من الصعب جدا استيعاب استجابة الدكتور مرسى لهذا المطلب الذى كان بالتأكيد يعلم أنه سيواجه به حال فوزه بالرئاسة. بدأ بالرد بـ: «ندرس ملف المحاكمين عسكريا.. وقيل لنا إن أغلبهم بلطجية وخروجهم سيؤدى للفوضى». وكأن الرئيس المنتخب نزل للتو من المريخ. كان أقل ما نتصوره، من رئيس يتحدث بالثورة، وآت من صفوف المضطهدين، أن يُبَيِّن أنه على دراية تامة بالموضوع، وبالظلم الذى وقع على آلاف الشباب، وبالخراب الذى يحل على آلاف البيوت، وإن كانت هناك «دراسة» يستلزمها الموضوع فهى دراسة الطريق القانونى لإعادة حرية هؤلاء الشباب لهم، وللاعتذار لهم، وإلغاء أى سجل جنائى وُضِع لهم.

 

الدكتور مرسى، الذى يخاطبنا بلغة الحب، «أحبكم، أحبكم كلكم»، يعيدها على مسامعنا، عليه بالأحرى أن يحب شباب مصر الذى لا يقف أمامه فى الميادين وقاعات الاحتفال، شباب مصر المحبوس ظلما. عليه أن يحب مهند سمير، الطالب المصاب الذى استُدرج إلى مديرية الأمن ليشهد على ما جرى لصديقه، الشهيد رامى الشرقاوى، وبأنه يستطيع أن يتعرف على الضابط الذى قتله، فحولوه إلى متهم وحبسوه، وساءت حال إصابته حتى صار مهددا ببتر ساقه. وإن كان يريد أن يعرف المزيد عنه فما عليه إلا أن يفتح هذا الموقع www.youtube.com/watch?v=bjIrjcVhJA0&feature=g-all-u ويستمع إلى والدته وهى تحكى تفاصيل ما حدث. وحين يستمع إليها عليه أن يتفكر بأن هناك ـ هنا فى هذا البلد الذى يرأسه و«يحب» شعبه ـ اثنى عشر ألف أم مكلومة مثلها، خطفوا أبناءهن وحبسوهم وقالوا إن أغلبهم بلطجية وخروجهم سيؤدى للفوضى. ثم عليه أن يضيف إلى هذا ألفا ومائتى أم شهيد، وألفا ومائتى أم مفقود، وستة آلاف أم مصاب. هل تتحمل رقبته كل هذا الألم؟

 

أقم العدل يا دكتور مرسى. لقاءات المحافظين مهمة، وكذا لقاءات القيادات، والشرطة والوفود، لكن المهم والأكثر إلحاحا هو شبابنا. وقد أفتى الحقوقيون بأن الطريق إلى حريتهم ورد اعتبارهم فى يدك، وهو ليس بتشكيل لجنة من النائب العام والنيابة العسكرية والشرطة. وكل هذه الكيانات، كل هذه الدساتير والانتخابات والمجالس والمناصب والرتب واللجان والقروض والتراكيب كلها يفترض أنها وُجِدت لترتيب وتسهيل حياة الشعب، والشعب يطالب ـ انظر إلى التظاهرات فى الشوارع وأمام القصر الجمهورى ـ الشعب يطالب بحق شبابه الذى دفع ثمن ثورته وثمن مستقبله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved