آسيا فى انتظار مستقبل بدون هيمنة أمريكية
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 4 أغسطس 2021 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
محظوظون شباب علماء العلاقات الدولية. هؤلاء لديهم فرصة تاريخية أن يكونوا شهودا على آليات صنع نظام دولى جديد. لدواعى الدقة كان يجب أن أضيف كلمة أو أكثر تعبر عن حقيقة أن العالم لا يزال فى مرحلة مبكرة من مراحل قد تكون عديدة تسبق نشأة النظام الدولى الجديد. هذا التحفظ يتضمن احتمال وقوع حرب عالمية فى مرحلة قادمة يراها بعض صانعى النظام الجديد شرطا تاريخيا ضروريا بدونه لا يقوم نظام دولى. صحيح أن التاريخ يبلغنا وبإصرار أن نظام توازن القوى الذى حافظ على السلم فى أوروبا، وبالتالى فى العالم الغربى وفى العالم بحكم عالمية الهيمنة الغربية على أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، هذا النظام حافظ على السلم العالمى لمدة قرن كامل، لم ينجر إلى نهايته المحتومة إلا حين خرقت دولة من الدول الأوروبية الكبرى بعض قواعد النظام، وهى القواعد التى أرساها مؤتمر فيينا المنعقد فى أعقاب حرب أوروبية شنتها إحدى دول النظام الأوروبى «الدولى وقتذاك» وهى فرنسا ضد معظم دول القارة بغرض تغيير أهم قواعد نظام التوافقات الثنائية والمتعددة والأحلاف المؤقتة الذى ساد العلاقات الإمبراطورية فى أوروبا قبل الثورة الفرنسية.
وقع خرق متكرر لعدد من قواعد نظام توازن القوى فى العقود الأخيرة للقرن التاسع عشر وبخاصة من جانب ألمانيا، الدولة الصاعدة بسرعة وقوة فى النظام الأوروبى وما وراءه. انتهى الأمر، وبعضه يتعلق بالتكالب على أفريقيا، انتهى بحرب عالمية جرّت الولايات المتحدة إلى قلب النظام الدولى أو إلى رأسه ومهدت لاندماج أشمل وأشد فعالية وأفرزت فى النهاية شكلا مبتكرا لنظام دولى صاغته ووضعت قواعد عمله الولايات المتحدة، وهى القواعد التى نسمعها يوميا تقريبا تتردد على ألسنة أعضاء الفرز الأخير للنخبة السياسية الأمريكية. لا يخفى هذا الجيل من النخبة اعتقاده الصادق بأن هذه القواعد التى وضعتها أمريكا ما هى فى الحقيقة سوى فصول مكملة أو بديلة لفصول فى القانون الدولى. فى عرف هؤلاء أن هذه القواعد التى وضعتها أمريكا لا تلتزمها الصين فى علاقاتها بجاراتها الآسيويات وفى تعاملها مع جزر بحرى الصين الشرقى والجنوبى، ينتقدون الصين ودولا أخرى مثل روسيا وإيران بينما لا يعترفون بأن إسرائيل تخرق هذه القواعد تحت سمعهم وبصرهم ضمن خروقاتها المتكررة لقواعد أصيلة فى القانون الدولى.
•••
دول كثيرة تتمرد هذه الأيام على القواعد والأحكام الأمريكية فى إعلان صريح عن رفضها الزعم الأمريكى أن قواعدها وأحكامها التى أقامت عليها النظام الدولى الراهن تساوى أو توازى فى أهميتها قواعد وأحكام القانون الدولى. الصين ترفض أن تخضع أساليب تعاملها مع احتجاجات الديموقراطيين فى هونج كونج أو مع النزعة الانفصالية لشعب الإيغور فى مقاطعة سنكيانج لحكم يعتمد على القواعد التى صاغتها الهيمنة الأمريكية عند وضع قواعد النظام الدولى الراهن فى أعقاب انتصارها فى الحرب العالمية الثانية. تعتقد الصين، وربما عن حق، أن الاستمرار فى تطبيق قواعد صاغتها أمريكا وصدق عليها المجتمع الدولى فى نهاية الحرب العالمية الثانية أمر غير جائز أو مشروع بعد أن تغيرت أوزان الدول العظمى وأصبح للصين ودول أخرى عديدة حق الاعتراض أو التمرد على استمرار هيمنة أمريكا على العمل الدولى بصفة عامة رغم وضوح انحدارها بشكل مطلق أو نسبى.
أمريكا فى حقيقة أمرها، ونخبتها السياسية بالتحديد، لا تنكر وقائع الانحدار بدليل الشعار الذى راح يتداوله آخر أربعة رؤساء للجمهورية الأمريكية، وهو الذى يعنى أن هؤلاء الرؤساء معنيون أو يجب أن يكونوا معنيين باستعادة عظمة أمريكا. آخرهم أخذ على عاتقه مهمة «إعادة أمريكا». لا يخفى رؤساء أمريكا، وأعضاء نخبتها فى الكونجرس وقيادة الحزبين ومراكز العصف الفكرى حقيقة خارجية ماثلة أمام الجميع تقف عقبة أمام هذه العودة، وهى الصين التى تزداد قوة كل يوم وتفلح فى تثبيت مكانها ومكانتها وتعمل بالدقة اللازمة نحو احتلال مناصب «مفتاحية» فى مؤسسات العمل الدولى المشترك، وهى المؤسسات المسئولة أولا وآخرا عن الاعتماد على القواعد الملزمة كما صاغتها أمريكا قبل ثلاثة أرباع القرن، وبمعنى آخر هى المسئولة عن عدم الاعتماد عليها وبالتالى العمل على تمهيد العمل الدولى المشترك لاستقبال قواعد جديدة تحل محل قواعد العمل الأمريكية.
•••
أكاد أرى فى منطقتنا تطورا قريب الشبه بالتطور الحادث على قمة النظام الدولى. أرى قواعد للعمل العربى المشترك تنهار أو بعبارة أخرى يصرف النخب السياسية العربية النظر عنها. نعرف، أو نتصور أنه عند نشأة النظام الإقليمى العربى جرت صياغة قواعد معينة يحتكم إليها العمل العربى المشترك، وبخاصة عند اتخاذ قرارات أو سياسات تقترب من حالة الصراع مع إسرائيل. وقف وراء هذه القواعد أكثر من دولة عربية مارست إحداها لفترة محدودة دور الدولة القائد فى النظام العربى، دولة ذات شأن وقتها فى مجالات عديدة شاءت ظروفها الداخلية والطبيعة المتقلبة لقطاعات مهمة فى نخبتها الحاكمة أن تفقد لمدة غير قصيرة بعض مكانها وشيئا من مكانتها قبل أن تقضى السنوات الأخيرة فى محاولة أظنها جادة لاستعادة المكان وبعض المكانة. نعترف أنه بسبب ظروف انحدار القوة وانطفاء الرغبة فى القيادة وانحسار إرادة الفعل وحماية قواعد العمل التى صاغتها منفردة فى مرحلة الريادة أو ساهمت فى صياغتها فى مرحلة أخرى أو تخلت عنها فى مرحلة ثالثة وتركت دولا أخرى من خارج النظام العربى ومن داخله تقوم بصياغة قواعد جديدة للعمل الإقليمى فى الشرق الأوسط. أظن أن المسئولين عن إدارة ما كان يسمى بالعمل العربى المشترك أقدر منى على التعبير عن الحالة الراهنة لقواعد فى العمل المشترك جرى التزامها فى مراحل وفقدت هيبتها وربما وجودها نفسه فى السنوات أو العقود الأخيرة. جدير بالإشارة أن هذه الحالة التى يمر بها العمل العربى تتدنى بسرعة أكبر من سرعة تدنى الحالة فى نظام القمة الدولية، فانحدار الولايات المتحدة باعتبارها القائد للنظام الدولى ما يزال متدرجا ولم يصل إلى النقطة التى تهدد تماسك النظام الدولى عند القمة. تقف الحالة الداخلية، ولا شك، عائقا أعظم على طريق العودة. لا يفوتنا أن العامل الحاسم فى تحديد مستقبل الدور الأمريكى سيكون المدى الذى سوف تذهب إليه النخبة السياسية فى أمريكا نحو خلع الديموقراطية ومنظومة الحقوق كلية أو جزئيا والانتقال إلى صف الدول غير الديموقراطية. تقف أيضا عوائق من نوع مختلف وأهمها، وهو ما يستحق انتباها من نوع خاص، هو ما آلت إليه المؤسسة أو المنظومة العسكرية الأمريكية حتى إنها فرضت على النخبة السياسية الاعتراف بهزيمة أمريكا العسكرية فى أفغانستان والخروج المخجل منها وما قد يتسبب فيه هذا الخروج من تطورات أخرى فى معادلات القوة والنفوذ فى آسيا. يكفى أننا صرنا نردد مع الخبراء الصينيين عبارة أن أمريكا لم تعد كما كانت القوة الوحيدة المطلقة الحرية فى العمل وممارسة النفوذ أو الهيمنة فى المحيط الباسيفيكى وأطرافه فى جنوب آسيا وجنوبها الشرقى وفى أستراليا على وجه الدقة. الآن ينتهى لأول مرة هذا الوضع الذى امتد لمدة طويلة، وضع الدولة الأقوى على الإطلاق. لا أظن أن أمريكا «ستعود» إلا إذا تغيرت، عسكريا وأيديولوجيا، فى الجوهر كما فى الشكل.