الجاسوسية وزيادة وعى الناس

معتمر أمين
معتمر أمين

آخر تحديث: الخميس 4 أغسطس 2022 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

يجذب الحديث عن الجاسوسية وعالمها معظم الناس، فالحكايات مليئة بالغموض والتشويق والإثارة. وتتسم تفاصيل قصص الجاسوسية وشبكاتها وعملائها بجوانب إنسانية بالغة التعقيد. ويصنع ذلك حبكة درامية تجعل من يتابع قضايا الجاسوسية فى منتهى اليقظة بحثا عن تفسير لأسباب ما جرى. ويزيد من وقع الموضوع التوقيت الذى انفجرت فيه القضية. فمثلا، لو انفجرت قضية تجسس الآن بأوكرانيا لصالح روسيا، فإن الخائن الذى قام بالتجسس يضر ببلاده أثناء الحرب، وقد يتسبب فى هزيمتها ووقع ضحايا كثر. ولذلك التجسس فى أحوال الحرب يكون من أخس أعمال الخيانة. نفس الأمر أثناء الثورات والاضطرابات داخل البلدان، عندما يتم الكشف عن شبكة أو شبكات تم تجنيدها وتعمل ضد مصالح الدولة والوطن. غالبا لا تصل قضايا كثيرة للإعلام، وإذا وصلت فبالقدر اليسير، لكى لا تضر بالستار الحديدى المضروب حول عمل أجهزة الاستخبارات. ولكن لابد من شرح وافٍ لجوانب معينة بالقضية بغرض تنبيه الناس لطبيعة التجنيد حتى ترتفع المناعة ضد هذا الفخ الذى يسقط فيه الكثير. وهنا لا نريد توجيه اتهام للإعلام بالتقصير فى عرض القضايا، ولكن نريد لفت الانتباه لبرامج نجحت بالفعل فى توعية الناس وأصبح لها جمهور عريض!
• • •
يمتلئ اليوتيوب بالكثير من القنوات التى يعمل أصحابها على نشر رسائل من هذه النوعية، من ضمنها قنوات تخصصت فى الرد على اتهامات بحق بطولات الجيش المصرى فى العصر الحديث، وقنوات تتناول الرد على ما تروج له قنوات إعلامية معادية تدس السم فى العسل مثل الكثير التى «تتحدث بالعربية» لكن قلبها ضد كل ما هو عربى. وهنا نتوقف أمام ملاحظتين: الأولى، يتفاوت استيعاب الناس لما يرونه ويسمعونه، كذلك تتباين قدرتهم على البحث والتحرى فيما وراء المعروض. ولا يقتصر هذا الأمر على المجتمع المصرى، ولكن على جميع المجتمعات شرقا وغربا. ولذلك يسقط ضحايا كثر فى معركة الوعى صرعى لوعى زائف، بناء على تزييف الحقائق، أو تدليس الأدلة. وقد تنفجر قضايا من عدم، كل دورها إثارة الجدل وبث الفرقة. والمجتمع المصرى اختبر هذه الظواهر بعد ثورة يناير عندما تبدل حال الإعلام بكافة سبله. الملاحظة الثانية، إدارة معركة الوعى على المنصات المرئية من أخطر أنواع المعارك، لأن الفيديوهات تنتشر وتستمر وتحدث أثرا، ويتابعها الآلاف وأحيانا الملايين. فإذا استطاع واحد أو أكثر تسليط الضوء على قضية بغرض توعية الناس، عن دراسة ودراية وخبرة فإن هذه هى القنوات التى نبحث عنها.
«ونبتدى منين الحكاية» نبدأها من قناة على اليوتيوب تحمل اسم «نبتدى منين الحكاية» لصاحبها هيثم سليمان الذى يقوم بالبحث وعرض القضية. وهو متخصص فى عرض قضايا التجسس بطريقة تتسم بالحضور الجيد أمام الكاميرا، والإلمام بتفاصيل كثيرة. ويبدو أن خلفيته الدراسية كباحث ماجستير فى القانون العام أهلته للقيام بهذا الدور، فكثيرا ما يشير لمجلات أو جرائد علمية كمصادر أخذ منها تفاصيل القضايا، لأن كثيرا من التفاصيل التى يعرضها فى الحلقات تبدو مذهلة. وهو يعرض لقضايا الجاسوسية وجهود كشفها، والأسباب التى أدت لسقوط العملاء بداية بالتجنيد، ثم كيف تم كشف أمرهم. ويتناول قضايا من بلاد شتى، أهمها مصر، وإسرائيل وبعض الدول العربية. ومنها قضايا قديمة تعود لحقب ما قبل ثورة يوليو لكنها كاشفة عن أمور أثرت فى مجريات التاريخ المعاصر، وقضايا أخرى جرت فى الحقبة الناصرية، وأيام السادات، ومصر مبارك، وما بعد ثورة يونيو إلى الآن. وأظن أن القناة عرضت قرابة 175 حلقة على مدى عمرها، وفاق عدد متابعى الحلقات متوسط 600 ألف مشاهد. لكن بعض الحلقات تخطت المليون، مثل حلقة خاصة عن المجند الراحل «سليمان خاطر»، وحلقة عن «القوات الخاصة بالجيش المصرى»، وحلقة عن الجاسوسة «هبة سليم»، وحلقة عن «شهيد إسرائيلى دفن ملفوفا فى علم مصر».
من مميزات الحلقات أنها تكشف الكثير عن خلفية العملاء وكيفية تجنيدهم. والحلقة لا تزيد على 25 دقيقة، ولكن تعج بالمعلومات المسرودة بطريقة مرتبة لكى يسهل استيعابها. ومن أسباب السقوط فى الخيانة ثلاثى الجنس، والمال، والسلطة. ويبدو أن أجهزة المخابرات تعرف كيف تعلب على هذه الغرائز جيدا، لاسيما أمام ضعاف النفوس، أو الناس الأكثر حاجة. فكثير ممن سقط فى فخ التجنيد غلبه فقره، أو العوز الشديد. ومنهم من وقع فى الفخ لأن مصروفاته فاقت دخله بكثير، وتطلعه فاق إمكانياته. لكن المدهش أن من يسقط فى الفخ يتمادى فيه، ولا يعرف كيف يخرج. فهو على يقين أن انكشاف أمره سيقضى عليه، ولا يثق فى الانتقال إلى الطرف الآخر «الذى هو بلده بالأساس» ويبوح بما اقترفته يداه خشية من التصفية. لكن هنا تأتى المفاجأة التى تكشفها الحلقات. ففى كثير من القضايا، تغير موقف العميل، وعاد إليه بعض الصواب وذهب بنفسه لأجهزة المخابرات ببلده وأفصح عن كل شىء، وتحول لعميل مزدوج لصالح بلده. ولكن البعض أصر على الخيانة حتى آخر لحظة، ومنهم الجاسوس «شريف الفيلالى» الذى كشفته زوجته، ومنهم الأستاذ الجامعى «زياد أحمد متولى» الذى تحول فى عمله من جاسوس إلى شبكة، إلى شركة قائمة على خيانة الوطن.
فى وسط هذه القصص، توقفت أمام قصة المهندس المصرى مصطفى أحمد عواد، الذى قبض عليه بالولايات المتحدة عام 2014 وحوكم بتهمة التجسس لصالح مصر. وكان يعمل بقاعدة نورفولك البحرية بولاية فيرجينيا الأمريكية منذ عام 2006 بمشروع حاملة طائرات أمريكية جديدة تعتبر الأكثر تطورا فى البحرية الأمريكية. لكن تأخر إطلاق الحاملة منذ عام 2016 إلى الآن بسبب قضية التجسس هذه. وطبقا لأوراق القضية، أوقع عميل فى الإف بى آى المهندس المصرى فى فخ التجسس، عبر انتحاله لصفة ضابط مخابرات مصري! ولك أن تتخيل أن مهندسا مصريا يبلغ من العمر 36 عاما، لم يكتشف أمر ضابط أمريكى انتحل صفة ضابط مصرى. كيف استطاع الضابط حبك الدور على هذا النحو؟ الإجابة عبر خاصية «المعايشة» وهى تدريب مكثف فى الواقع العملى لضابط الاستخبارات حتى يصبح كأنه بالفعل مصرى. ومن ثم استطاع التحقق من ولاء المهندس المصرى، بعدما طلب منه رسومات لحاملة الطائرات، وأجابه المهندس المصرى وأمده بالمعلومات ظنا منه أنه يخدم بلده. تم القبض عليه وإدانته. ثم أفرج عنه لاحقا فيما يبدو أنها صفقة بين الدولتين واختفى تماما عن الأنظار.
• • •
تحية لهيثم سليمان على جهده الدؤوب فى توعية الناس، وعلى لغته المهذبة فى كشف الحقائق التى منها «أعزكم الله» مسائل تخص العرض والشرف للرجال والسيدات. فنحن بحاجة لهذه الجهود والتى على شاكلتها، ليس فقط لأنها تكشف الحقائق وتبصر الناس بما غاب عنهم من قضايا، ولكن أيضا للأسلوب العلمى الرزين الذى يتم فيه تناول وعرض الموضوع بدون أى تجاوز.

باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية
الاقتباس:
من مميزات الحلقات أنها تكشف الكثير عن خلفية العملاء وكيفية تجنيدهم. والحلقة لا تزيد على 25 دقيقة، ولكن تعج بالمعلومات المسرودة بطريقة مرتبة لكى يسهل استيعابها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved