فى حياتى رجل رمادى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 4 سبتمبر 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

نقرة على باب الغرفة بالكاد مسموعة انفتح على أثرها فتحة سمحت لرأسها بأن تطل وتعتذر وتستأذن فتدخل بكل جسمها وتحيينا جميعا بهزة رأس ثم توسع لنفسها مكانا بين اثنتين وتجلس. دارت بعينيها تتفحص الجالسين دون أن تحرك رأسها ثم نظرت ناحيتى لتسأل عن السبب فى أننى تأخرت فى تعريفها بالضيوف وإن كانت تطفلت على الجلسة. لم تنتظر إجابة منى أو رد فعل. راحت تعرف بنفسها مؤكدة بين عبارة وأخرى أنها كانت تواظب على حضور هذه الاجتماعات حتى أن طرأ طارئ على حياتها جعلها تتخلف عن حضور عدد منها فى الأسابيع الأخيرة. «أنا صديقة هذا المكان وتلميذة صاحبه»، قالتها دون أن تنظر ناحية الكرسى عالى ومستقيم الظهر الذى كنت أجلس عليه. أعقبتها بنظرة استفهامية دارت بها على الجالستين اللتين تشاركانها الأريكة الجلدية ثم على الجالس على المقعد الوثير فى ركن القاعة، نظرة تقول، «عرفتم من أنا والآن دوركم لأعرف من أنتم ومن أى خلفية أتيتم. انتهت جولة التعارف. الآن تعود الكرة إلى ملعب صديقنا وراعى اجتماعنا».
***
رحبت بعودتها بعد غياب وأطنبت فى ذكر مزاياها ونقاط قوتها ثم أعلنت افتتاح الجلسة ومقترحا البدء فورا فى طرح عناوين قضايا للنقاش. رأيت العيون تتجه بفضول واضح ناحية الصديقة القديمة الجديدة. الطريقة التى دخلت بها والمقدمة التى بدأت بها حديثها إلى جماعة لا تعرفها وإشاراتها المتكررة إلى أنها ابنة المكان وصديقته ثم تعمدها الإبلاغ عن طارئ طرأ على حياتها وتسبب فى انقطاعها عن زيارة المكان وحضور اجتماعاته، كلها عناصر اجتمعت لتثير الفضول. على كل حال الطارئ دائما مثير للانتباه. قدرت فورا أن الجلسة لن تكون مثمرة إذا لم تكشف صديقتى عن خفايا الطارئ الذى اقتحم هدوء حياتها قبل أن نطرح اقتراحات بموضوعات لجدول أعمالنا. لحظات وكانت صديقتى تحكى حكاية الطارئ.
***
قالت «ذات عصر من أيام الأسبوع الماضى عاد والدى من مكتبه مبكرا عن موعده المعتاد ومتوجها مباشرة إلى غرفتى على غير عادته لينقل لى حرفيا نص ما دار بينه وشخص غريب على التليفون. طلب الغريب منه أن يأذن باستقباله فى بيتنا ليتعرف فى حضور والدى على الآنسة كريمته، التى هى أنا وليست شقيقتى الأكبر. قلت لأبى إننى لا أعرف رجلا بهذا الاسم وإن كان الاسم لا يبدو غريبا عنى. قال أبى «ولكنه يعرفك ولم يشأ أن يفاتحك فى النادى أو فى المسبح قبل أن تتعارفا فى حضورى. أنا أسمع عن أهله فمراكزهم متينة». لم أفهم قصد والدى ولم أشأ أن أجره إلى نقاش سياسى واجتماعى حول مفهوم المراكز المتينة وهو للتو وصل من مكتبه ولا شك منهك. تعودنا فى عائلتنا على عادة غير مستحبة كثيرا. نكاد لا نترك مفهوما جديدا أو غريبا أو مهجنا يدخل إلى بيتنا دون أن نتناوله تشريحا أو تفكيكا أو بالاجتهاد لإعادته إلى أصله وفصله. أشفقت على أبى فالرجل تكلف بحمل رسالة لى من نوع لم يعد مألوفا ومن شخص لا يعرفه ولكنه استنتج أن بين أهله من يحتل مراكز متينة. قال متينة ولم يقل مرموقة.
***
دق جرس الباب فى الموعد الذى حدده الطرفان، الضيف ووالدى. كنت طلبت من أهل البيت وخدمه ألا يفتح الباب غيرى. فتحت لرجل ببذلة رمادية وقميص أقل بياضا مفتوح عند الرقبة. أوسعت له المكان ليدخل. ارتبك قليلا. كان يحمل علبة أنيقة محشوة بأوراق زهور بيضاء تردد قبل أن يقرر أيها يأتى أولا، يمد اليد الحرة للتحية أم يمد اليد التى تحمل ورق الزهر. لم أشأ إطالة فترة الارتباك وتدخلت. قدمت نفسى لأتلقى فى المقابل هزة من رأسه وابتسامة من فمه. مشيت أمامه نحو غرفة المكتب والمكتبة. دخلت ودخل ورائى. استدرت فجأة فارتبك. هدأت من روعه مشيرة إلى مقعد مريح. لم يجلس على الفور إلا بعد أن جلست. اخترت لى مقعدا يناسب فستانا ارتديته خصيصا للمناسبة واخترت له مقعدا يناسب موقع مقعدى.
***
أنا لا أحب اللون الرمادى. تصوروا فتاة لا تحب اللون الرمادى فيكون من حظها أن تقضى أسابيع عدة متصلة فى صحبة رجل، هو نفسه رمادى الصفات والطباع والسمات. أنا مصرية سواحلية وبالتحديد، إسكندرانية. ولدت ونشأت وتربيت فى طقس مواسمه بالغة الوضوح. عشنا نميز بكل الحب والحسم معا بين الألوان. نحب الألوان الصريحة. نحب ألوان قوس قزح وهى زاهية. نحب الأزرق ولا مانع لدينا من اختلاط الأزرق بالأخضر عند الظهيرة أو عندما يجتمعان لمحو نهار بدأ عند الصباح رماديا. نحب الألوان براقة، نشفق عليها من سحابة قادمة من الغرب بلونها الرمادى لتطفئ لمعان ألواننا التى نحبها. نضجنا نسمى الأشياء بأسمائها الحقيقية. لا يضيرنى أن أقول إن الرمادى هو لون عالم حزين. لكنه أيضا، وفى نفوسنا جميعا، لون الوقار الذى نحترم، وفى السياسة نعتبره لون الحياد المتوازن. أحترمه وأقدر دوره ولكنى لا أحبه.
***
ألا تشاركوننى الرأى، وأنت أولهم يا أستاذ، فى أن الرمادى لا قلب له أو عاطفة. لا يلتزم ويكره أن يطلب منه الاختيار بين لونين أو موقفين أو رأييين. اتهموه القدامى بأنه يكره الاختلاط بالألوان الأخرى ويفضل أن يكون خارجا عنها. كنت أسمع حتى تأكدت بنفسى من أن الرماديين لا يشعرون بعاطفة قوية تجاه لونهم المفضل. لا يعشقونه كما يعشق محبو الأحمر أو الأزرق لونهم. وعلى كل حال عرفت أيضا أن الرجل الرمادى لا يكون بسهولة رأيا قويا فى الأشياء حبا أو كرها. ومع ذلك تجدونه يفرش سريره باللون الرمادى، فالرمادى لون الزهد وربما الكبت. كدت أكثر من مرة أنبهه إلى أنه أيضا لون الموت. هو بالتأكيد صوت السكون إن كان للصمت والسكون لون. قيل فيه أيضا أنه لون الشجر الميت على أطراف المدن المهجورة، هو اللون الذى تفضله صور ما بعد الكارثة والحرائق والطوفان. هو بالفعل اللون الذى أذكره كلما جئنا فى مناقشاتنا سيرة الثورة الصناعية أو لندن فى القرن التاسع عشر. يبالغون فيقولون إن الشاب الصاخب والبهيج إن هرم صار شيخا رماديا. الحقيقة هى أن أحدا منا لن يفلت من اللحظة الرمادية.
***
نقلوا عن آندريه جيد قوله إن الرمادى لون الحقيقة. الأصل فى الألوان هو الرمادى وليس أى لون آخر. الألوان الطبيعية التى تتلون بها صور هذه الأيام ما هى إلا غزو للحقيقة واعتداء عليها. هكذا دفاعهم عن الرمادى. يعتقد المدافعون أن الألوان تبالغ وفى النهاية تصبح متعبة للعين التى سرعان ما تلجأ إلى الرمادى ترتاح فى حضنه البارد. نحن حين نحن إلى الماضى نلجأ إلى مذكراتنا، أى نلجأ إلى سجلاتنا التاريخية، إلى الأبيض والأسود بجميع أطيافهما الرمادية. لا نلجأ لذكريات بالأزرق أو الأحمر أو البنفسجى.
***
صديقى الأستاذ: أطلت عليك وعلى زملاء ألحوا ليعرفوا. أما النهاية فأدعوكم للمشاركة فى صنعها. لقد قبلت الرجل الرمادى زوجا تحت التجربة وهو الآن ينتظرنى فى الصالة الخارجية لأعرفكم عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved