المتهم الذى لم يگن رئيسًا

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 4 نوفمبر 2013 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

فى تراجيديات المصائر يواجه «محمد مرسى» أحوالا لم يسبقه إليها أسلافه على المقعد الرئاسى.

يمثل اليوم فى قفص الاتهام معلقا على خيط فى الفضاء السياسى تراوده آماله أن يعود مرة أخرى إلى الحكم رهانا على جماعة كان ظلها فى القصر الرئاسى والحقائق حوله تقول إن كل شىء انتهى وأن جماعته تقوض نفوذها.

وجد نفسه فجأة على المقعد الرئاسى دون تهيؤ للوفاء بمتطلباته أو استعداد أن يتصرف كرئيس لكل المصريين. كان «رجل التنظيم» المأمون يلتزم السمع والطاعة.. التعليمات تصدر من «المقطم» حيث مكتب الإرشاد ورجله القوى «خيرت الشاطر» المرشح الأصلى للجماعة فى الانتخابات الرئاسية إلى «الاتحادية» حيث يفترض أن يدير هو الدولة.

حكمته فكرة «المرشح البديل» و«الرئيس البديل».. وباستثناء ما أبداه أحيانا من تململ لبعض الضغوطات عليه فإنه ذهب إلى مصائره وهو لا يمتلك من أمره شيئا. دعا معارضوه فى تظاهراتهم لـ«سقوط حكم المرشد» ولم يهتفوا لسقوطه هو، كأنه رئيس بين قوسين، لا جماعته عاملته كرئيس ولا معارضوه اعترفوا برئاسته. صعد للرئاسة بغير قدرات تزكيه وأزيح من فوقها بأخطاء غيره فى مكتب الإرشاد.. لكن هذا لا يعفيه من مسئولية حكم تصدر لها واتهامات خطيرة يواجهها فى محاكمته.

هو الرئيس الثالث الذى يعزل بعد الرئيسين «محمد نجيب» و«حسنى مبارك» وهو الرئيس الثانى الذى يحاكم وهو الرئيس الأول الذى توجه له تهمة التخابر.

الرئيس «محمد نجيب» كان عنوانا رئيسيا لمرحلة فى تاريخ ثورة يوليو والصراع على صورة المستقبل بعدها. اختاره «الضباط الأحرار» لتاريخه العسكرى وسمعته فى صفوف الجيش رمزا لحركتهم دون أن يكون عضوا فى التنظيم ولا قائدا للتحول الكبير فى (٢٣) يوليو. تقبل المخاطرة الكبرى فى لحظة حاسمة مقتنعا بضروراتها الوطنية، وفى المخاطرة احتمالات إخفاق قد تفضى نتائجها إلى إعدامه مع قيادات «الضباط الأحرار»، لكنه بنوازع البشر وطبائع السلطة دخل فى صراع مفتوح عليها، تحالف مع القوى التقليدية ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين فى مواجهة مجلس قيادة الثورة ونزعته لتبنى مشروع تغيير واسع فى بنية المجتمع.. وأفضى الصراع إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية لسنوات طويلة فى فيللا بضاحية الزيتون.

فى الروايات التاريخية المتضاربة عن رئاسة «نجيب» لا أحد يختلف أنه يمثل شيئا حقيقيا له حضوره وأن شخصيته بمقوماتها وانحيازاتها صاغت أدواره على مسرح التاريخ وتحولاته، وهو أمر افتقده «مرسى» بفداحة فى تفاعلات المشاهد المصرية باستثناء خطاباته المطولة التى لم يكن يقل فيها شيئا له قيمة أو جدوى!

المعنى نفسه بصياغة أخرى ينصرف مع حالة سلفه «حسنى مبارك»، فقد انطبعت ثلاثة عقود من حكمه بشخصيته وطبائعها، جُرفت الحياة السياسة وتوحشت الآلة الأمنية ودخلت البلد فى حالة جمود طويل تتماهى على نحو ما مظاهره وتداعياته مع «الجمود البريجينيفى» الذى استبق سقوط الاتحاد السوفييتى. فى الجمود الطويل والتجريف الذى صاحبه تأكدت مسئوليته عما وصلت إليه البلاد.. وفى سنواته الأخيرة بدا رئيسا مزمنا حتى أن الأجيال الجديدة التى تقدمت صفوف أطاحته من السلطة كان من بين أعز أمانيها أن ترى رئيسا آخر غيره، فقد ولدت بعد أن تولى الرئاسة وأنهت سنوات دراستها وتطلعت لحياة جديدة بينما هو فى مكانه لا يتزحزح ويفكر فى توريث السلطة لنجله الأصغر.. وعندما خلفه «مرسى» على مقعده الرئاسى لم يخطر ببال أحد أن يلحقه إلى السجن فى محاكمة قرن جديدة لكن دون أن يكون رئيسا فعلا يتحمل مسئولية قراراته والسياسات التى يتبعها.

لم يخضع «مبارك» وعهده إلى تحقيق سياسى شامل يكشف للرأى العام حقيقة التجريف والإفساد الذى أفضى فى النهاية إلى إطاحة الحكم ورئيسه، وتلخصت اتهاماته فى مسئوليته عن قتل المتظاهرين قبل إطاحته، والاتهامات افتقدت أدلتها وقرائنها الكافية.. جرى إخفاء بعضها واتلاف بعضها الآخر، ولم تكن الاتهامات كلها جدية كأنها صممت لوضعه فى السجن بعض الوقت.

على المنوال نفسه يحاكم «مرسى»، فالقضايا مقتطعة من سياق كامل، بعضها خطير مثل اتهامه بالتخابر، لكن موضوع القضية يتجاوز أدلته وقرائنه من تسجيلات ومستندات إلى مسألة الأمن القومى وكيف أديرت ملفاته على مدى عام كامل وحقيقة التعهدات التى قطعتها الجماعة لجهات دولية وإقليمية والترتيبات الاستراتيجية التى التزمتها.

فى محاكمته اليوم تنسب إليه مسئولية ما جرى من تعذيب وأريق من دم على أسوار قصر «الاتحادية» دون أن تمتد المسئولية نفسها إلى وقائع مماثلة أهدرت فيها أرواح ناشطين شبان ناصروه فى الصعود إلى الحكم قبل أن يلقوا حتفهم على يد نظامه.. وفى محاكمته التالية عن تهم التخابر مسألة مسئولية رجل عن اتهامات منسوبة إليه دون أن تتبدى فى أوراقها مسألة الدولة نفسها.. بما تستدعيه من تساؤلات إضافية فى ملف العنف والإرهاب ومدى تورط الجماعة فى تأسيس ميليشيات عسكرية وطبيعة تحالفاتها مع جماعات تكفيرية تضرب فى سيناء وتتمدد إلى مثلث الإسماعيلية الصالحية بلبيس ومناطق أخرى بالداخل المصرى. الإجابات ربما لا تدخل كاملة فى علم «مرسى» لكنه بشكل أو آخر وفر الغطاء الرئاسى لما جرى من عنف قبل إطاحته.

فى محاكمة «مرسى» تحضر اختبارات القوة وحساباتها، هو بشخصه ليس موضوعها الرئيسى ومصيره نفسه موضوع مقايضة فى مفاوضات تطلبها الجماعة بشروط أفضل مما تبدو عليه الآن موازين القوى. المقايضة على رئاسته لا إعادته إليها، الاعتراف بما جرى بعد (٣٠) يونيو وإزاحة مرسى مقابل أدوار سياسية جديدة تتطلع إليها فى صلب المعادلات المصرية.

قبل المحاكمة أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن ما سمته «مليونيات» تحاول أن تعطلها ولا يستبعد حضور العنف فى مشاهد اليوم الأول لمثول «مرسى» فى قفص الاتهام، فكلما استبان أمامها أن زخمها توقف وقدرتها على الحشد تراجعت تحاول اثبات حضورها بأساليب أكثر عنفا تنطوى على شىء من اليأس من بينها محاولة تعطيل الدراسة فى الجامعات بالقوة وترويع أساتذتها وطلابها واتلاف مبانيها الإدارية بأجهزتها ومستنداتها على النحو الذى تتابعت مشاهده المرعبة فى جامعة الأزهر.

فى توقيت أحداث الأزهر رسالة عنيفة استبقت المحاكمة حاولت إثبات عجز السلطة عن فرض هيبتها أو المضى قدما فى وضع الرئيس السابق خلف قفص الاتهام.

فى منزلق العنف ما يسحب عن الجماعة أحقيتها السياسية والأخلاقية على السواء فى حكم تطلبه، فلا يوجد بلد فى العالم يقبل المظاهرات المسلحة أو الاعتداءات البدنية واللفظية فى الجامعات بصورة يصعب تخيل أن تصدر عن جماعة تنسب نفسها إلى الإسلام وخلقه، ولا بلد فى العالم يقبل منع مثول متهمين بالتحريض على القتل أو التخابر مع جهات أجنبية، وإلا فإنه إهدار كامل لفكرة العدالة نفسها وحق الدفاع المكفول للمتهمين.

فى منزلق الحل الأمنى ما يهدد مكتسبات حقيقة فى حق التظاهر السلمى وفى إلغاء الحرس الجامعى.. وما بين المنزلقين فإن سؤالا يطرح نفسه: كيف نحفظ أمن الجامعات وسلامتها من أعمال العنف والتدمير ونصون فى الوقت نفسه استقلالها أو ما يتوفر لها من استقلال من انهيارات جديدة تعيدنا إلى الخلف؟.. وسؤالا آخر يفرض نفسه: هل باتت جماعة الإخوان المسلمين بتصرفاتها العنيفة قيدا على فكرة التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر يصعب الفكاك منه فى مدى منظور؟

ضغوط ما بين المنزلقين هى التحدى الجدى الأساسى للمرحلة الانتقالية، فإما أن تجد إجاباتها بما يحفظ الضرورات الأمنية ويصون الفكرة الديمقراطية وإما تنزلق نهائيا إلى فشل محقق.. والفشل هو ما تطلبه الجماعة قبل العودة إلى موائد التفاوض.

فى اختبارات القوة استبقت الدولة المحاكمة ووقائعها بإعلان حالة تعبئة أمنية عامة غير مسبوقة فى التاريخ المصرى كله بإدراك أن موضوع الصراع اليوم هو هيبتها. لهذا الاعتبار بالذات استبعدت أية احتمالات لتأجيل المحاكمة تحت ضغط الفوضى الأمنية بتصعيداتها المقصودة. يتبقى بعد ذلك ضرورات عدالة ومستقبل لابد منها فى مقدمتها سلامة الإجراءات القانونية وقواعد العدالة فى قاعة المحاكمة للرجل الذى لم يكن رئيسا ولجماعته التى أفضت حماقاتها إلى الخروج من الحكم إلى السجون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved