طفل وحيد

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 4 نوفمبر 2015 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

ابتداء من اليوم يجوز للعائلة الصينية أن تنجب الطفل الثانى. أخيرا صدر القرار الذى انتظره الملايين من أبناء وبنات الشعب الصينى وعلماء الاجتماع والنفس والسياسة والمراقبين المتخصصين فى شئون الصين، للقرار مغزى يفوق مغزى أى قرار آخر تصدره حكومة من الحكومات، قرار يمس مستقبل أمة وحياة كل فرد فيها، ويمس فى الوقت نفسه أمن وسلامة الدول الأخرى المتاخمة والبعيدة.

•••

كان الرئيس ماو يشجع الإنجاب المتعدد. اعتمد على الشباب فى بناء نظامه السياسى فشجع تكاثرهم وعرف كيف يستخدمهم أثناء الثورة الثقافية للقضاء على الفساد والأفكار العقيمة. وفى عام ١٩٧٩ ومع انطلاق مرحلة اشتراكية السوق بقيادة الرئيس دينج تشاو بنج سمع الناس فى أنحاء الصين عن قرار فى الحزب الحاكم، متأثرا مثل غيره من أحزاب العالم الثالث بكتاب Ehrlich بعنوان القنبلة السكانية. يحدد القرار النسل بطفل واحد لكل عائلة. لم ينشر القرار فى جريدة رسمية، ولم يعلن فى صحف الحزب الشيوعى أو وثائقه. ولم تعترف بوجوده جهة رسمية. كان واحدا من أهم القرارات التى يمكن أن تتخذها حكومة فى العالم. وفى الوقت نفسه لا دليل ملموسا على صدوره من جهة مركزية فى الدولة.

•••

الإعلان عن قرار بهذا المضمون يعنى فعليا وقوع تدخل سافر وجسور ومخيف فى بنية الأمة. أن تتدخل نخبة حاكمة فى شبكة العلاقات الاجتماعية وأنماط الانتاج والاستهلاك شىء، وشىء آخر أن تتدخل حكومة أو سلطة ما فى دقائق سلوكيات المواطن وخصوصياته. الآن وللأسف الشديد يستطيع المدافعون عن هذه السياسة، وأقصد سياسة الطفل الواحد، الزهو بأنه كان لهذه السياسة الفضل فى الوصول بسرعة إلى المستوى الرفيع الذى ارتفعت إليه الصين اقتصاديا.

هؤلاء المدافعون، رغم الزهو، هم فى وضع لا يحسدون عليه. هؤلاء يتحملون اليوم مسئولية مجتمع أعيدت هندسته بخيارات وسلوكيات لم يحسبوا حسابها. الصين اليوم مجتمع تبلغ نسبة الشيوخ وكبار السن فيه أكثر من ثلث عدد السكان، أى أن ثلث المواطنين لا ينتجون ولكنهم يستهلكون. من ناحية أخرى أنتجت هذه السياسة جيلاً يعترف أفراده بسعادتهم لأنهم «احتكروا لأنفسهم حب الأهل لم ينافسهم فيه أخ أو أخت».

أكثر من 400 مليون نسمة فقدتهم الصين خلال خمسة وثلاثين عاما بسبب هذه السياسة. عشرات الملايين من الصينيين لم ينعموا يوما بمعنى الحياة فى عائلة بها أشقاء واقتصرت عاطفة العائلة كما عرفوها ومارسوها على هذا القدر المبالغ فيه من حب الأب والأم وتفانيهما فى التدليل. سئل عدد كبير من الشباب عن تفضيلاتهم فكادوا يجمعون على أنهم لو خيروا لاختاروا أن يولدوا وينشأوا فى عائلة لا يوجد فيها شقيق أو شقيقة. لن يرضوا بغير هذه الحياة بديلاً. بمعنى آخر، هناك فى الصين ملايين المواطنين فى سن الشباب لم يتعرفوا على معنى وقيمة الأخ والأخت.

قيل عن هذا الجيل إنه نشأ حاد الطباع، أنانى السلوك، لا يقبل ببساطة رفض طلباته ورغباته، سريع الانفعال، ضيق الصدر. جاء فى بعض الدراسات أن هذا الإنسان الصينى الذى نشأ فى أحضان سياسة الطفل الوحيد، لا يفتأ يكرر أنه عند الزواج لن ينجب أكثر من طفل واحد، لأنه يريد لطفله الوحيد أن ينعم بالسعادة التى نعم بها هو نفسه.جدير بالملاحظة أن 29 % من المتزوجين حديثا أعربوا عن استعدادهم التجاوب مع السماح بإنجاب طفل ثان بشرط أن تتولى الدولة الانفاق عليه حتى يتخرج ويجد عملاً.

•••

وقع أيضا ما لم يدخل فى الحسبان، وهو أن هذه السياسة أسفرت عن اختلال فى التوازن فى نسب الرجال والنساء فى المجتمع. أكدت الاحصائيات أن الرجال فى الصين، صاروا أكثر عددا بسبب عمليات الإجهاض التى أجرتها نساء فضلن أن يكون الطفل الوحيد المقرر لهن ذكرا. هذا الاختلال فى التوازن ووجود فائض متزايد باستمرار فى عدد النساء شجع على ظهور دعوات لفتح باب الزواج المتعدد للمرأة كحل لمشكلة عنوسة الرجال فى مجتمع يشيخ، شجع أيضا على الاهتمام بدراسة مستقبل هذا النوع من المجتمعات، حيث تزداد نسبة المعمرين والشيوخ عن النسبة التى يمكن أن يتحملها نظام الرعاية الاجتماعية والصحية، وحيث يجد الجيش صعوبة فى تجنيد العدد اللازم من الشباب، وحيث تحدث تحولات فى سلوك المواطنين، بخاصة الجيل الجديد، ليست بالضرورة متناسقة مع طموحات نظام يسعى لنهضة البلاد والارتقاء بثقافتها وقيمها. هذه وغيرها من الظواهر هى حصيلة أهم تجربة فى «الهندسة الاجتماعية» جرت فى العصر الحديث. تدخلت نخبة حاكمة مستخدمة احتكارها لقوة القمع والكرم لتغيير الهيكل السكانى والسلوكى للمجتمع، ومتسببة فى تغيير العلاقات التقليدية والموروثة بين الكبير والصغير، وبين الأهل والأبناء، وبين الدولة والمواطنين. كانت السلطة فى احيان كثيرة بالغة القسوة. يشاع أن ممثليها كانوا يختطفون الأطفال الرضع المخالفين للقرار من أهاليهم ويودعونهم ملاجئ الأيتام، وأن عمليات الاجهاض القسرى كانت تجرى أحيانا خارج المستشفيات، وأن بعض المصانع كانت تطلب من العاملات إثبات حلول العادة الشهرية كدليل على عدم وجود حمل.

تدخلت السلطة بكل العمق الممكن إلى داخل العائلة، إلى قلوبها وعواطف أعضائها لتقرر لهم متى يستعدون للإنجاب، وكيف، وأين؟ تدخلت لتقرر لهم أيضا تفاصيل ومواعيد مسيرة الحمل والإنجاب. أقامت فعليا وليس رمزيا داخل غرف النوم. الدولة كانت دائما هناك، ترهب لتردع فى كل مرة اجتمع زوج وزوجة فى غرفة نوم، لأنهم إن أخطأوا كان الثمن بالفعل باهظا، يدفعه المخالف من أجره ووظيفته ونظرة جيرانه وتسهيلات وخدمات الحى والدولة، وقد يطيح بمستقبله السياسى.

•••

حلم أى سلطة فى الدنيا السيطرة على عقل المواطن والتحكم فى قراراته. كلها تحاول. بعضها يهدف إلى إحكام السيطرة عليه لإخضاعه سياسيا واجتماعيا، وبعضها يسعى إلى وضع قواعد وأصول يتصور أنها تخدم الأمة خدمة أفضل. وكلها تعتمد بدرجة أو بأخرى على الدين والفتاوى والتقدم العلمى ومناهج التعليم وأحيانا العنف وبرامج غسيل المخ لتحقيق هذا الهدف.

•••

يأتون ويجربون ويرحلون أو يطردون، وتبقى الشعوب بعدهم تحصى ما تغير فيها وما فقدت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved