الحرية النقابية سبيلا للتقدم الاقتصادى والسياسى

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 4 نوفمبر 2017 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

نشرت الصحافة فى الأسبوع الماضى، بما فى ذلك «الشروق» الغراء، أنباء عن مناقشات فى لجنة القوى العاملة فى مجلس النواب لمشروع قانون تنظيم النقابات العمالية. العناوين فى «الشروق» وغيرها ركزت على ما دار فى المناقشات بشأن انتخاب رؤساء ومجالس إدارات النقابات، وعلى تمثيل المرأة والشباب فيها، وعلى «التمويل الأجنبى» للأنشطة النقابية، وهذه كلها مسائل جديرة بالانتباه إلا أنها ليست الأهم فى مشروع القانون ولا هى التى يمكن أن تؤثر إيجابا أو سلبا على ممارسة العمال الفعلية لحقهم فى التنظيم. 
أما بخصوص موضوع القانون، فإن أول الملحوظات تتعلق بالغرض من إصداره والسبب فيه. الغرض هو أن يحل محل القانون رقم 35 لسنة 1976 الذى ينص على وجود تنظيم نقابى تراتبى هرمى واحد هو الاتحاد العام لعمال مصر، وقد نظّم القانون عمل الاتحاد وهو تلقائيا جعل من أى تنظيم نقابى لا يندرج فى الهرم الذى أقامه تنظيما غير شرعى. أما السبب فى إصدار القانون فهو مزدوج. الأول هو أن الدستور المصرى لسنة 2014 قد نص فى مادته رقم 76 على أن « إنشاء النقابات على أساس ديمقراطى حق يكفله القانون وأنها تمارس نشاطها بحرية، وأن الدولة تكفل «استقلال الاتحادات والنقابات»، وبالتالى فإنه لم يصبح ممكنا الإبقاء على القانون رقم 35. أما الثانى، فهو أنه ولفترة طويلة أصبحت مصر تدرج ضمن الحالات الفردية التى تنظر فيها لجنة مؤتمر العمل الدولى المعنية بتطبيق معايير العمل الدولية كل بضع سنوات، ومنها السنة الجارية فى يونيو الماضى وقبلها فى سنة 2013، نظرا لخروجها على أحكام اتفاقية الحرية النقابية وحماية الحق فى التنظيم رقم 87 لسنة 1948. قلب الاتفاقية رقم 87 هو الإقرار بحرية العمال وأصحاب العمل فى تكوين المنظمات الممثلة لهم والانضمام إليها والانسحاب منها، وتنظيم نشاط هذه المنظمات وممارسته بحرية دون تدخل من السلطات العامة. الاتفاقية رقم 87 تكفل أيضا للمنظمات الممثلة للعمال ولأصحاب العمل حرية الانضمام للاتحادات الإقليمية والدولية، بما يشمل بالضرورة إقامة العلاقات من كل نوع معها. ولقد صدقت مصر على الاتفاقية رقم 87 فى سنة 1957. جوهر خروج مصر على الاتفاقية هو فى نص القانون رقم 35 على وجود تنظيم نقابى واحد. 
***
المنطق من وراء الاتفاقية هو أن حرية العمل النقابى هى الكفيلة بوجود نقابات تمثيلية حقيقية وبإقامة علاقات عمل صحية ومتوازنة يُرتكنُ إليها فى درء نزاعات العمل أو فى تسويتها، وتؤمن اتخاذ أفضل السياسات فى مجال العمل كما فى شئون الاقتصاد، بما فى ذلك الاستثمار، والتدريب، ورفع مستوى الإنتاجية والتوزيع العادل لعوائده، وهذه كلها أمور لها انعكاساتها الإيجابية على التقدم الاقتصادى، ورفع مستوى المعيشة، والسلام الاجتماعى. لأن الاكتراث بالدستور قليل فالأغلب أن السبب الرئيسى وراء العمل على إصدار التشريع الجديد هو تفادى أن يكون خروج مصر على الاتفاقية رقم 87، ومن جديد، ضمن الحالات الفردية التى تعرض على مؤتمر العمل الدولى، مع ما لهذا العرض من آثار على سمعة مصر فى المجتمع الدولى والسمعة مما تحرص عليه كل الدول سواء فى منظمة العمل الدولية أو غيرها لأن للسمعة تأثيرا فى قطاعات أخرى فى النظام الدولى غير ذلك الذى تُهدرُ فيه. انظر إلى استنتاج لجنة مؤتمر العمل الدولى فى دورته الأخيرة. نص الاستنتاج على أن اللجنة أسفت للاختلافات طويلة الأمد بين التشريع الوطنى وأحكام الاتفاقية، ولأنه بالرغم من الطلبات المتكررة للجنة الخبراء المعنية بتطبيق اتفاقيات وتوصيات العمل الدولية فإن الحكومة لم توفر صورة من مشروع القانون لها، وطالبت اللجنةُ الحكومةَ بأن يتفق هذا المشروع مع الاتفاقية، خاصة ما يتعلق بالتنظيم النقابى الواحد، وأن ترسل بصورة منه إلى لجنة الخبراء، وبأن تكفل لكل النقابات فى مصر ممارسة نشاطها وانتخاب المسئولين فيها بحرية كاملة، قانونا وعملا، وبما يتفق والاتفاقية. لجنة الخبراء تنعقد فى وقت لاحق من الشهر الحالى وهو ما يكشف العلاقة بين الاستنتاج والمناقشة الحالية فى مجلس النواب. 
*** 
مشروع القانون الجديد فيه تقدم ولا ريب، غير أنه يبدو أن عدم ارتياح من أعدوه لمبدأ الحرية النقابية قد جعلهم يحاولون التحايل عليه بإلغاء التنظيم النقابى الواحد نصا مع الإبقاء عليه روحا. هذا المقال ينصب على بيان بعض سبل هذا التحايل. أول هذه السبل هو الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للاتحاد العام، التنظيم الواحد فى القانون 35، وإنكار الشرعية على النقابات التى نشأت منذ سنة 2011 واكتسبت الوضع القانونى بتسجيلها بمقتضى إعلان الحريات النقابية، ومطالبتها بأن «توفق أوضاعها» وفقا» للقانون الجديد. شروط القانون الجديد «لتوفيق الأوضاع» تضع حدودا دنيا لأعداد العمال الذين يشكلون لجنة نقابية، وللجان التى تكون نقابة عامة، وللنقابات التى تؤسس اتحادات تجعل من شبه المستحيل إنشاء اللجان أو النقابات أو الاتحادات، فى اقتصاد وتشغيل مصريين أغلبهما غير منظم. صحيح أن المشروع ينص على أن أحكامه تشمل «عمال الخدمة المنزلية» و«العمالة غير المنتظمة والعمالة الموسمية»، ولكن الواقع هو أن هذه الفئات من العمال، وفى كل البلدان، نادرة الانخراط فى العمل النقابى. فضلا عن ذلك، ينص المشروع على ألا توجد إلا لجنة نقابية واحدة فى المنشأة وهو ما يحبط تماما الحرية والتعدد النقابيين. سبيل آخر لتقييد الحرية النقابية لجأ إليه المتحايلون هو ما أسموه بالتمويل الأجنبى الذى حظروه. هل تمويل اتحادات دولية لنقابات مصرية أعضاء فيها تمويل أجنبى؟ هل تمويل منظمة العمل الدولية لأنشطة نقابات هى أعضاء عن مصر فيها تمويل أجنبى؟ المتحايلون استغلوا بالطبع الأجواء المحمومة التى أحاطت بإصدار قانون الجمعيات الأهلية، الذى أغلق أبواب «التمويل الأجنبى» عنها، بدوافع وطنية مدعاة. الغرابة هى أنهم لم يستفيدوا من درس ما جره قانون الجمعيات هذا على مصر وما حرمها منه. 
***
الشىء الأعجب هو أنهم لم يعيروا اهتماما بتحذير صريح صدر عن شركة دولية كبرى تنتج الملابس فى مصر لتصديرها وتوزيعها فى أنحاء مختلفة من العالم. الشركات الكبرى، تحت ضغط الحركة النقابية الدولية وبتأثير كذلك من جماعات المستهلكين، أصبحت حريصة على احترام الحقوق فى العمل حتى لا يؤثر الطلب على سلعها. الشركة المعنية حذرت من أنها ستوقف تعاملها، وهو بعشرات الملايين من الدولارات مع المنتجين المصريين المشغِلين للعمال المصريين، إن لم تتحسن شروط التشغيل وظروفه فى مصر. السبيل إلى هذا التحسن هو أن تستفيد مصر من برنامج «عمل أفضل» الذى ينفذه مكتب العمل الدولى، ولكن هذا المشروع يشترك الاتحاد الدولى لنقابات العمال فى إدارته وفقا للبنية الثلاثية للمنظمة. على الرغم من الاستنتاج الذى توصلت إليه لجنة المؤتمر المشار إليه أعلاه، فإن المكتب تفهما لما وعدت به الحكومة، أبقى على نشاط محدود للبرنامج فى مصر حتى نهاية العام وذلك حتى لا تنسحب منها الشركة الدولية المذكورة. المكتب أبقى على البرنامج على أمل أن تأخذ العملية التشريعية فى مصر باستنتاج لجنة المؤتمر وأن تستفيد من المعونة الفنية التى قدمها للحكومة لمعالجة التحايل الواضح على روح الحرية النقابية. الاستمرار فى التحايل كما هو واضح من مشروع القانون الحالى مناقشته فى لجنة القوى العاملة فى مجلس النواب معناه أن لجنة الخبراء التى تنعقد خلال هذا الشهر ستسجل استمرار تنظيم النقابات العمالية فى مصر فى الإنكار العملى لحق العمال فى الحرية النقابية وهو ما يعنى أن مكتب العمل الدولى سيضطر، تحت ضغط أعضاء المنظمة الذين يديرون برنامج «عمل أفضل» إلى وقف نشاطه، فتنسحب الشركة المذكورة من مصر، ومن يعلم من قد يحذو حذوها أو قد يمتنع عن المجىء أصلا. هل هذه هى سياسة لتشجيع الاستثمار وتنشيط التجارة الخارجية المزعوم أم أنها إحباط لأى مساع جادة لحل المشكلة الاقتصادية غير المسبوقة التى تعيشها مصر ويعانى منها المصريون حاليا؟ وبالطبع ففى هذه الحالة ستعود مصر إلى قائمة الحالات الفردية فى العام المقبل أو الذى بعده. آراء أصحاب العمل ممثلين فى اتحاد الصناعات، ووزارة الصناعة والتجارة الخارجية، ووزارة الخارجية فى مشروع القانون ضرورية تماما قبل أن يسبق السيف العزل. 
مفهومٌ أنه لا يمكن أن توجد حرية نقابيةٌ فى وقت تنكرُ فيه الحريةُ على الأحزاب والمجتمع السياسى، وعلى الجمعيات والمجتمع المدنى، ولكن الأمل كان أن يتنبه أصحابُ السلطة إلى خطورة ذلك على الاقتصاد، وبالتالى على التشغيل ومستوى المعيشة، وعلى السياسة، بما فى ذلك على السلام الاجتماعى، وعلى سمعة مصر فى المجتمع الدولى كدولة تحترم تعهداتها الدولية.
الحرية ليست بابا للفوضى وإنما هى سبيل للتحديث الاقتصادى والاجتماعى والسياسى. 
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة 
الاقتباس
إن حرية العمل النقابى هى الكفيلة بوجود نقابات تمثيلية حقيقية وبإقامة علاقات عمل صحية ومتوازنة يُرتكنُ إليها فى درء نزاعات العمل أو فى تسويتها، وتؤمن اتخاذ أفضل السياسات فى مجال العمل كما فى شئون الاقتصاد، بما فى ذلك الاستثمار، والتدريب، ورفع مستوى الإنتاجية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved