الدولة بالعسگر أو الفوضى؟!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 4 ديسمبر 2013 - 7:00 ص بتوقيت القاهرة

يتبدى الوطن العربى بأقطاره فى المشرق والمغرب جميعا وكأنه قد فقد توازنه الذى كان يسعى لتثبيته بقوة الأمر الواقع أنظمة العجز وافتقاد الرؤية والغربة عن العصر.

ولقد أسقطت الانتفاضات الشعبية التى تفجرت فى مسلسل متزامن العديد من الأنظمة الهرمة التى كانت تستمد استمراريتها من يأس الجمهور وافتقاده القيادة المؤهلة التى توظف قدراته غير المحدودة من اجل التغيير وكان يكفى «حادث واحد» كما حدث مع البوعزيزى فى سيدى بوزيد فى تونس لكشف حقيقة هذا «الأمر الواقع»، فإذا الأنظمة اضعف بما لا يقاس مما كان مقدرا، وإذا الجمهور أقوى بكثير مما كان يفترض.. وهكذا فتحت صفحة جديدة فى تاريخ هذا الوطن الكبير.

على أن اخطر ما كشفته الانتفاضات الشعبية أن أنظمة العجز كانت قد دمرت «الدولة»، بمؤسساتها جميعا، العسكرية منها والمدنية، الاقتصادية والاجتماعية، إذ حصرت السلطات جميعا فى يدى «الرئيس»: فهو ــ أولا ــ رمز الديمقراطية بدليل أن «الاستفتاءات» التى تجرى حول شخصه منفردا تعطيه «أصوات الشعب» جميعا، ولو كانت نسبة التصويت اقل من عشرين فى المائة، باعتبار أن الموظفين فى المؤسسات والإدارات الحكومية والمنتفعين من القائم بالأمر هم وحدهم الذين يذهبون ــ بالأمر أو بالمصلحة ــ إلى صناديق الاقتراع.

ثانيا: إن «الأمن أساس الحكم» ولأن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة بأجهزتها جميعا، الجيش والمخابرات والأمن الداخلى وشبكات العسس المنتشرة فى أربع جهات البلاد عبر «الحزب الحاكم» أو بالدقة «حزب الحاكم»، تصبح «السيطرة» على المجتمع وتغييب إرادته هى القاعدة الفعلية لهذا النمط المستولد هجينا من شعارات الديمقراطية.

ويمكن لهذا «الرئيس» أن يتباهى بنظامه الديمقراطى عبر مقارنة مباشرة مع حكام الماضى أو أنظمة الملكيات المطلقة التى تحكم دولا أخرى فى المنطقة حيث الانتخابات اعتداء على شريعة السيف وحيث الحاكم بنسبه يكاد يجسد الإرادة الإلهية أو يرى نفسه الوكيل الوحيد لمنتجها الفريد!

ثالثا: إن الأحزاب والقوى السياسية المنظمة والهيئات الشعبية ليس لها أى حضور مؤثر فى ميدان العمل العام. فبعضها عتيق شاخت قدراته وغيب الموت قياداته ولم يتبق منه إلا الاسم الذى يستحضر الماضى على حساب الحاضر، وبعضها الآخر مستحدث وقد استولدته السلطة أو سمحت له بالوجود لاستكمال «المشهد السياسي» والإيحاء بأن «النظام» ليس عسكريا متوحشا، كما يُرى من الخارج، بل هو «نظام عاقل» يستخدم سلطته المطلقة (بأجهزتها جميعا) لبناء الديمقراطية كما تتصورها مصلحته فى إدامة حكمه. من أجل أن يتم تأهيل الشعب لممارستها، ولا بأس أن يستغرق هذا الانجاز التاريخى زمنا طويلا، وهكذا يشترى النظام زمانا لحكمه الفردى «لتحقيق» الديمقراطية بوصفها «حلما». ومن استعجل الديمقراطية قبل أوانها عوقب بحرمانه منها!

أما فى الأقطار التى كان يحكم فيها «الرئيس ــ القائد» من خلف واجهة حزبية براقة فقد أثبتت السيرة الذاتية لمثل هذه الأنظمة أنها قد شاخت وفقدت مبررات وجودها.. فالحزب الذى تجلل شعاراته مقعد الرئيس ــ الزعيم الأوحد ــ لم يعد له وجود فاعل فى حياة بلاده، ولم يتبق له من تاريخه إلا الاسم الذى كان ذات يوم متوهجا بنضاله الشعبى الفاعل وشعاراته حاملة أحلام الوحدة والحرية قبل أن تدمره الانقسامات المتوالية ومحاولاته المتكررة للاستيلاء على السلطة التى فشل معظمها ثم لم تنجح آخر الأمر إلا بالعسكر، وبمن استطاع ــ وبهدوء ــ أن يعيد بناء المؤسسة العسكرية وفق خطته الشخصية المغطاة دائما بالشعار الحزبى.. فلما جاءت الساعة الصفر وقفز إلى القمة كان قد اطمأن إلى أن سيطرته شاملة، فمن قاوم أو رفض أو استنكف كان الخيار أمامه محددا: يعلن ولاءه أو ينسحب ويعتزل الحياة العامة و«الاشتغال بالسياسة»، فإن أبى انتهى إلى السجن، فى أحسن الحالات ولمدة مفتوحة إلى ما شاء الله.

وهكذا استهلكت السلطة فى هذه الأقطار القوى السياسية التى كانت ذات يوم واعدة، اقله بطلائع مناضليها وبشعاراتها المتوهجة، والأخطر أنها فتحت الباب لكى يتولى العسكر فلا يخرجون بعد ذلك منها، حتى لو نزع «القائد» ثوبه العسكرى وظهر «مدنيا» يحاضر فى الديمقراطية ويرعى الأحزاب التى كانت منافسة والتى تم «ترشيدها» و«إعادة بنائها» عبر خيار محدد: تصيرون قوى رديفة موالية للنظام وداعية له فى الشارع أو تكملون «نضالكم» فى السجون والمعتقلات!

هكذا تحولت الأنظمة فى كل المساحة ما بين الجزائر واليمن إلى «حاكم فرد» يقود «حزبا» تاريخيا ولكنه بات خارج تاريخه بعدما أنهكته الانقسامات والانقلابات الفاشلة وحملات التصفية وإغراءات المشاركة فى سلطة ليست له ولكنها تضمن لمناصريه الأمان وللافتته أن تبقى مرفوعة ومعلقة فوق مكتب له لم يفتح إلا بإذن من صاحب الإذن ولأعداد محدودة من المناصرين مع تسليم قراره لحزب القائد.

من هنا الألقاب واضحة الدلالة التى أطلقت على هؤلاء الحكام المفردين، وبينها: الزعيم الخالد، كبير العيلة، الزعيم الأوحد أو «ماكو زعيم إلا كريم»، كما أطلق على عبدالكريم قاسم، قائدنا إلى الأبد، الأخ القائد... والذى جعل رتبة «العقيد» أعلى رتبة فى الجيش.

ولم تكن مصادفة أن الأنظمة التى أسقطتها الانتفاضات الشعبية أو تداعياتها كانت «عسكرية»، سواء أكانت تغطى عسكرها بشعارات حزبية ذات تاريخ أو بضرورة أن يكون للحكم حزبه الذى يضفى عليه الطابع الشعبى ليمكنه الإدعاء انه إنما يحكم باسم «الملايين» ممن كان عليهم أن ينضموا إلى حزب السلطة وإلا ماتوا جوعا أو قهرا فى المنافى البعيدة.. هذا إذا استطاعوا الخروج من البلاد التى تظللها رايات الحزب الحاكم الذى لم يحكم، وصورة الحاكم الذى يغيِّب الحزب الذى وصل برايته ولا يغيب إلا بالقدر المكتوب.

كانت معظم البلاد العربية تخضع لحاكم فرد تسانده عائلته، بفروعها المدنية والعسكرية، من ليبيا إلى اليمن.

ولقد سألت، ذات يوم، الرئيس اليمنى الذى عزل ولم يعتزل على عبدالله صالح: من أنت، وماذا أنت.. هل أنت الخليفة أمير المؤمنين، أم الملك، أم الإمام، أم الزعيم ــ قائد الحزب الحاكم، أم شيخ مشايخ القبائل، أم رئيس الجمهورية؟ّ فأجاب ببساطة تنضح خبثا: أنا هؤلاء جميعا!

ومع أن غيره من «الرؤساء المخلدين» قد يهرب من مثل هذا السؤال إذا ما جرؤ احد أن يطرحه عليه، إلا أنهم جميعا يمارسون «السلطة المطلقة» يعاونهم فيها بعض من يطمئنون إليه من الأقارب المقربين أو التابعين المخلصين.

وبغض النظر عن «مضمون» أجوبة هؤلاء الحكام المخلدين فإن الحقيقة التى لا مجال للهرب منها أنهم حكموا المجتمعات التى سيطروا عليها بقوة الجيش أو القبيلة ومعها بعض المنتفعين، وفى ظل رضا دولى سببه المباشر أن أمثال هؤلاء الحكام هم انجح من يحقق مصالح «الخارج»، لاسيما دوله الكبرى التى يتبادلون معها المنافع: فهم يحفظون لها مصالحها، وقد يعززونها، وهى توفر لهم الدعم ــ ولو بالسكوت عن ارتكاباتهم ــ بما يجعلها تتباهى بأنها قد حققت الاستقرار وأعادت الجيش إلى ثكناته بما يفسح فى المجال أمام الحياة المدنية.. على طريق بناء الديمقراطية!

«الاستقرار» هى كلمة السر التى كانت تبرر دوام هذه الأنظمة، التى كتمت أنفاس مجتمعاتها، ودمرت أسس اقتصادها الوطنى، وأباحت الثروة الوطنية للأقارب والأعوان والمحاسيب الذين يتقنون شبك العلاقات مع الخارج.. وطبيعى أن يتطلب «الاستقرار» التضحية ببعض «الزوائد» وأسباب الترف كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحتى الكرامة الوطنية.

على أن البديل عن مثل تلك الأنظمة لا يمكن أن يتجسد فى الفوضى أو فى «الحكم بالشريعة» أو «الحكم بالخوف» فى قلب فراغ الشارع.

الماضى لن يعود، لكن حاضر السلطات القائمة بالأمر فى انتظار إقامة النظام الجديد لا يبشر بمستقبل أفضل. والعسكر كما الدين ليس البديل المؤهل لكى يسير بالبلاد إلى غدها.. فى غياب الديمقراطية أى الشعب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved