ثلاثية السياسة المصرية فى حقبة أوباما

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 5 يناير 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

لأسباب متناقضة غاية التناقض، أصبح الرئيس الأمريكى ــ الموشك على مغادرة منصبه ــ باراك أوباما ثالث أكثر الرؤساء الأمريكيين سوءا فى السمعة، واستنفارا للكراهية فى المنطقة العربية، وخصوصا مصر.

كرهنا بوش الابن بسبب غزوه العراق، وإهماله القضية الفلسطينية، وهذه أسباب مفهومة.

وكرهنا ليندون جونسون بسبب خداعه لنا فى أزمة إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية فى عام 1967، فتجاوبنا مع مبادرته للحل السلمى، ولكنه كان يرتب مع إسرائيل لشن هجوم الخامس من يونيو، وهذا أيضا سبب مفهوم ومقبول.

أما لماذا أصبح باراك أوباما مكروها على نفس المستوى، فالأسباب متعددة، وبعضها مثير للأسى، وبعضها الآخر غير قابل للفهم.

أول هذه الأسباب هو حماس الرجل لأهداف ثورات الربيع العربى فى التحول الديمقراطى، وتعلو الكراهية لأوباما لهذا السبب على ما عداه من الأسباب فى مصر.

وثانى الأسباب التى جعلت أوباما مكروها فى المنطقة هو توصله إلى اتفاق مع إيران يحصر برنامجها النووى فى الأغراض السلمية، وهو ما اعتبر لدى السعودية ودول الخليج العربية استسلاما للنفوذ الإيرانى، فى وقت يتمدد فيه هذا النفوذ فى العراق وسوريا ولبنان واليمن.

والسبب الثالث لسوء سمعة أوباما، وكراهيته فى المنطقة العربية، هو امتناعه عن التدخل بالقوة لإسقاط النظام السورى، والسماح لروسيا، بإرسال قوات كبيرة لمساندة الأسد.

لن نتوقف كثيرا أمام السببين الإيرانى / الخليجى والسورى، لأننا نود التركيز على الشأن المصرى فى حقبة أوباما.

فكيف كانت العلاقات المصرية الأمريكية قبل أن يدخل الرجل البيت الأبيض فى يناير 2009؟

كانت هذه العلاقات تمر بأسوأ أزماتها، وأعلن الرئيس المصرى حسنى مبارك فى عام 2007 أنه لن يزور الولايات المتحدة طوال ما تبقى من رئاسة جورج بوش الابن، وقال سفير مبارك فى واشنطن «نبيل فهمى» إن بوش أحرج الرئيس مبارك أمام شعبه بمطالبته بالديمقراطية، ونتذكر جميعا تأجيل إقرار المعونات أو تخفيضها أكثر من مرة، ومقاطعة الرئيس المصرى للجلسة التى تحدث فيها الرئيس الأمريكى فى مؤتمر دولى بشرم الشيخ ... الخ.

حاول أوباما أن يفتح مع مبارك صفحة جديدة أساسها تجنب الضغط العلنى من أجل التحول الديمقراطى، والاعتماد على الإقناع الهادئ بالتدرج فى هذا التحول، وزار القاهرة، وخطب فى جامعة القاهرة، ودعا مبارك لزيارة واشنطن فى أغسطس عام 2009، فما الذى فعله مبارك، ونظامه الذى كان ابنه هو من يقوده فى الحقيقة؟

استغل النظام هذا التحسن فى العلاقات مع الولايات المتحدة لتمرير مشروع التوريث، فزورت انتخابات 2010 لتأتى ببرلمان أقصيت منه كل أطياف المعارضة، لتدخل مصر كلها فى حالة دوار سياسى، لم تستفق منه، إلا على ثورة يناير 2011، ثم جرى ما نعرفه جميعا من تطورات كانت الإدارة الأمريكية طرفا مباشرا ومؤثرا فيها، ليس بمبادرة منها فقط، ولكن أيضا بمبادرات من كل أركان النظام، وكل القوى فى البلاد، ولم يتحفظ أحد وقتها على هذا«التدخل».

كذلك كانت واشنطن طرفا مباشرا ومؤثرا فى ترتيبات الفترة الانتقالية بموافقة الجميع، وكانت طرفا فى كل التطورات، التى جرت والأزمات التى ثارت فى فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين، وفى الأزمات التى تلت التحرك الجماهيرى، ثم تدخل القوات المسلحة، لإسقاط حكم الجماعة.

نتحول إلى السؤال الأهم، المطروح دائما، ببراءة أحيانا، وبسذاجة فى أحيان أخرى، وبمغالطة تنطوى على سوء نية فى أحيان ثالثة، وهو: وما شأن الولايات المتحدة بما يجرى فى مصر؟ ولماذا تهتم الولايات المتحدة بنشر الديمقراطية فى مصر أصلا؟

للاجابة علينا أن نفهم تاريخنا على حقيقته، وعلينا أيضا أن نفهم العالم على حقيقته، فالولايات المتحدة ترى أن التحول الديمقراطى ضرورى للتنمية، ونشر قيم الاعتدال، بما يجفف منابع الإرهاب، ويدعم الاستقرار والأمن فى كل العالم، فى عصر ما بعد الحرب الباردة.

أما تاريخنا فيقول إنه منذ جاءت حملة نابليون إلى مصر، أصبح النظام السياسى فيها شأنا يهم القوى الرئيسية فى العالم، وتتفاوت درجة التأثير الدولى فى تكوين النظام السياسى المصرى من حقبة إلى أخرى حسب قوة وضعف هذا النظام، وحسب طبيعة علاقته بشعبه، وأما السبب فى هذا الاهتمام الدولى بالنظام السياسى فى مصر فإنه يعود بالدرجة الأولى إلى موقعها الجغرافى، والى دورها المحورى فى إقليمها.

فقد ظل الفرنسيون بعد خروجهم من مصر يخططون للعودة، وحاول البريطانيون استباقهم بحملة فريزر الشهيرة، واتخذ كل جانب منهما حلفاء داخل البلاد، فيما كانت الدولة العثمانية تحاول إعادة سيطرتها، وكان هذا الصراع الدولى هو الأرضية التى مهدت لتولى محمد على حكم مصر حين استطاع أن يجتذب تأييد القوى الشعبية، فاعتبرته القوى الدولية المتصارعة حلا وسطا مرضيا.

منذ ذلك اليوم، ظل الدور الدولى فاعلا بدرجات متفاوتة فى تكوين النظام السياسى المصرى، فعندما حاول محمد على التمرد على هذا الدور الدولى، تحالف الجميع ضده، وفرضت عليه معاهدة لندن 1840، ولكن هذه المعاهدة نفسها هى التى أسست الحكم الذاتى لمصر، كما أسست شرعية توارث حكمها فى الأسرة العلوية، وكانت مساندة القوى الكبرى جنبا إلى جنب مع الرشاوى هى ما مكن الخديوى إسماعيل من توسيع نطاق استقلال مصر، ثم كان هذا الدور الدولى هو ما أجبر السلطان العثمانى فيما بعد على عزل إسماعيل نفسه.

ثم جاء الاحتلال البريطانى، الذى استكان له الخديوى توفيق، والذى عزل الخديوى عباس، وأجلس السلطانين حسين كامل وأحمد فؤاد، حتى قامت ثورة 1919 التى عادت القوى الشعبية بموجبها لتلعب دورا مهما فى تكوين النظام السياسى المصرى، ولتبلور نهائيا ما سبق مشاهدته دون تأصيل كاف فى ظروف تولية محمد على، وهو ما سميناه فى عنوان هذا المقال بثلاثية السياسة المصرية، ونعنى بهذه الثلاثية أن النظام السياسى المصرى تتنازعه أو تتوافق عليه قوى ثلاث هى القصر أو الدولة العميقة كمصطلح حديث، وثانيا القوى الشعبية، وثالثا الإمبراطورية العالمية، وكلما توافقت قوتان أمكن التقليل من دور القوة الثالثة إلى الحد الأدنى، ولسوء الحظ فقد كانت القوى الشعبية هى الضحية فى معظم الأحقاب.

كان أول من أخرج هذه النظرية إلى العلن هو السير مايلز لامبسون (لورد كليرن فيما بعد) المندوب السامى البريطانى فى مصر فى ثلاثينيات، وأربعينيات القرن العشرين، وصانع حادث 4 فبراير الشهير فى التاريخ المصرى، فقد شبه لامبسون السلطة فى مصر بكرسى من قوائم ثلاث، هى فى وقته القصر الملكى، والسفارة البريطانية (ممثلة إمبراطورية ذلك الزمان) وحزب الوفد (ممثلا للشعب فى ذلك الزمان أيضا).

مصداقا لتلك النظرية راهن الأمريكيون وهم يتأهبون للحلول محل بريطانيا فى مصر والمنطقة على الملك فاروق لقيادة إصلاح شامل متحالفا مع حزب السعديين، لكنه خذل الجميع، فاتجهوا للبحث عن بديل خوفا من ثورة شيوعية، ولذلك لعبوا دورا حاسما فى نجاح حركة الضباط فى يوليو عام 1952، وكان الدور الأمريكى حاسما أيضا فى كسر نظام جمال عبدالناصر الذى حاول الخروج من بيت الطاعة الإمبراطورية، وذلك بمساعدة إسرائيل فى حرب 1967، كما كان هذا الدور حاسما فى دعم تحولات نظام أنور السادات، وبلغ النفوذ الأمريكى فى نظام السادات حد إثنائه عن قرار إسناد رئاسة الحكومة لنائبه حسنى مبارك عام 1979، وذلك حماية للنائب من «الحرق» فى هذا المنصب.

ونكتفى بمثل واحد من عهد مبارك الطويل على عمق وقوة النفوذ الأمريكى فى النظام المصرى، وهو اللهاث للحصول على رضا واشنطن عن مشروع توريث الحكم لجمال مبارك.

وأما بعد مبارك، فقد قدمت جماعة الإخوان أوراق اعتمادها للموفدين الأمريكيين قبل أن تقدمها للشعب المصرى، وقبل أن تعلم بها أعضاءها.

وفى أثناء الأزمة مع حكم الإخوان، وبعد سقوطه، كان الجميع فى جبهة الإنقاذ ينسقون مع واشنطن، وكان وزير الدفاع وقتها (الرئيس الحالى عبدالفتاح السيسى ) على اتصال يومى بواشنطن، كما صرح هو نفسه لصحيفة وول ستريت جورنال، وكما صرح أخيرا تشاك هيجيل وزير الدفاع الأمريكى آنذاك لمجلة نيويوركر.

إذن لا محل للتساؤل لا ببراءة ولا بسذاجة ولا حتى بمغالطة تنطوى على سوء النية، لماذا تتدخل أمريكا فى شئون مصر، فهذه هى حقائق الواقع المصرى، وهى أيضا حقائق الواقع العالمى، إلا إذا أردنا العزلة مثل كوريا الشمالية وايران، أو أحرزنا قوة مثل روسيا والصين.

فلماذا إذن انفرد أوباما وحده بكراهيتنا بسبب دعمه لمطلب التحول الديمقراطى، وقد سبقه إليه بوش الابن جهرا، كما سبق اليه بيل كلينتون سرا؟ السبب هو أن عهد أوباما هو الذى شهد قيام ثورة شعبية خلعت الرئيس، وأوشكت أن تسقط نظامه بالكامل، ومن الطبيعى عندما تسيطر الثورة المضادة أن تصب عليه جام دعايتها الكارهة لثورة الشعب، ولمن ناصروها، كل على قدر تأثيره فى مجريات السياسة المصرية.

بقى أن نسجل لأوباما وعليه أنه بقدر ما أبهج العالم بنبذه سياسة شن الحروب، بقدر ما أثار الاستياء من مبالغته فى الحذر، مما تسبب فى مآسٍ إنسانية، كما فى سوريا، وما تسبب فى إثارة شهية الدب الروسى لاستعراض القوة، وبسط النفوذ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved